عندما اخترع االألماني يوهانس غونتبرغ مطبعته البدائية في منتصف القرن الخامس عشركان بهدف تسهيل طباعة ونشر الكتاب المقدس ، وكان يعتقد أنه فتح ابواب عصر النهضة أمام ثورة ثقافية تساعد في الأندماج والتواصل بين المجتمعات الأنسانية.

وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهرت تقنيات الأتصال المتطورة اكثر، وتم تحسين وسائل طباعة ونشر الصحف ، التي فرضتها الحاجة لتقنيات الدعاية وتعبئة الجماهير في الحرب الأهلية الأميركية ، وبعدها الحرب العالمية ألأولى في اوروبا. ومنذ ذلك الوقت اصبحت الصحف ووسائل الأعلام رافعة للتقدم التكنولوجي ورمزا لقوة الفكر والتواصل الأجتماعي وانتشار النظريات الفلسفية في ذلك الزمن.

يقول ارمان وميشال ماتلار في كتابهما « تاريخ نظريات الأتصال «: «اظهرت الحرب أن وسائل الأتصال قد غدت أدوات ضرورية في ادارة الرأي العام من طرف الحكومات ، سواء تعلق الأمربالرأي العام الموجود في الدول الحليفة أم في الدول المعادية « ، باعتبار ان الدعاية في وسائل الأعلام والأتصال تمثل الوسيلة الوحيدة في خلق وتعزيز الانتماء والولاء داخل المجتمعات في زمن الحرب ، كما يمكن استخدامها على الجانب الآخر من اجل تكثيف التحفيز العصبي عند جماهير المعارضة في الدول المناوئة من اجل خلق حراك فوضوي عنيف يتصاعد ضمن الخطة المرسومة المبنية على علم التوجيه والتحكم من الخارج.

كل هذه المقدمة الطويلة العريضة من اجل الوصول الى جوهر ولب الموضوع ، وهو التاكيد بان الحروب الأهلية المشتعلة في بلاد العرب ، وحالة التوتر الكونية التي يعيشها العالم ، سببها التهديد والتصعيد العسكري ، والغزو الثقافي والأعلامي في زمن ثورة الأتصال والتطوير التقني لوسائل الأتصال الأجتماعي ، بحيث اصبح من السهل التلاعب بوعي الناس واخضاعهم عبر التأثيرات المباشرة والجماعية لوسائل الأعلام المهيمنة المقتدرة التي تنجح في اثارة غرائز الجماهير باسم الحرية والديمقراطية ، أو باستخدام المقدس.

الحقيقة ان وسائل الأعلام والأتصال الأجتماعي في الدول المهيمنة تملك قدرة هائلة على التاثير بعدما اصبحت تملك تقنيات تشكيل الرأي العام واعادة تشكيل الوعي عند الجماهير ، كما اصبحت قادرة على اختراق صفوف النخبة المثقفة في المجتمعات ، عبر معرفة مستوياتهم الثقافية واوضاعهم الأجتماعية وآرائهم وسلوكياتهم ونقاط ضعفهم وحتى احلامهم ، وهو ما يساعد وسائل الأعلام المهيمنة على احداث تغيير في اوساط المثقفين ، وبالتالي تطويعهم ودفعهم الى الأندماج في الواقع الراهن وهجر الثقافة المقاومة.

وقد ثبت أن وسائل الأعلام في الدول الكبرى أصبحت ، ومنذ عقود مضت ، تشكل الغطاء الشرعي للحملات العسكرية ، بل توغل في تضليل مجتمعاتها من اجل تبريرعمليات غزو عسكري لبلاد اخرى وشن حروب دامية ، كما حدث في الولايات المتحدة في اكثر من مرحلة تاريخية ، في مقدمتها الحادث الوهمي في خليج تونكين حين سربت ادارة ليندون جونسون لوسائل الأعلام خبرا كاذبا حول قصف سفينة اميركية ، كان الهدف منه تصعيد الحرب ضد فيتنام الشمالية بغطاء حملة اعلامية تحريضية عملت على اثارة الرأي العام الأميركي.

وحادثة خليج تونكين لم تكن الأولى ولا الأخيرة في سجل الأدارات الأميركية ، ما زلنا نذكر جيدا عملية غزو العراق واحتلاله تحت غطاء اعلامي اميركي روّج لمزاعم كاذبة حول وجود اسلحة كيماوية واسلحة دمار شامل في العراق ، وبعد خراب بلاد الرافدين اعترف الأعلام والمسؤولون الأميركيون ان المصادر كانت كاذبة.

رغم ذلك ما زالت الماكينة الأعلامية الأميركية تعمل بنشاط في خدمة عمليات عسكرية اخرى ، خصوصا التدخل الأميركي العسكري في سوريا ، وهو التدخل الذي يؤكد ان لا شيء تغير في السياسة الخارجية لواشنطن ، رغم اعلان الرئيس ترامب انه لن يعمل على قلب انظمة الحكم في الدول الأخرى ، وأنه لن يرسل قواته للقتال في بلاد اخرى ، ولكن الثابت أن الرئيس ترامب لم يغلق باب التوتر الدولي ، بل ترك الأبواب مفتوحة امام كل الأحتمالات ، حتى احتمال الأشتباك المدمر مع كوريا الشمالية !!

الرأي 2017-04-24