شكرا ليبرمان

يزعجنا لكنه الأفضل لأنه الأصدق. افيغدور ليبرمان ليس صوت نفسه ، وإنما صوت التطرف الصهيوني الذي يحكم كل معادلة الصراع العربي الإسرائيلي. لذا هو لم يزعجنا بل أزعج من يحتاجون الى قناع ليستمروا في الكذب علينا.
هذا الرجل لم يكذب في مجلس الأمن بالأمس ، لكن بنيامين نتنياهو كذب عندما قال انه لا يمثل الحكومة. والتناقض هنا ليس صورة لحقيقة المواقف داخل حكومة واحدة ، وإنما هو مقتضيات توزيع الأدوار ، كي تبقى السلطة الفلسطينية في المفاوضات الى أمد تحتاجه إسرائيل والولايات المتحدة ، دون ان تلغى من ذهن العرب والأجانب الثوابت الإسرائيلية الصهيونية.
اجل لديهم ثوابت ان هي إلا الكفة المقابلة لثوابتنا مع فارق أنها ثوابت مخالفة للحقوق في حين ان ثوابتنا هي الحقوق بحرفيتها. وليبرمان لا يحيد عن الحقيقة الصهيونية عندما يطرح مصطلح الأمة في خطابه ، ولا عندما يتحدث عن الأراضي ولا عندما يتحدث عن القدس ولا عن الناس. فهو إذ يطرح مصطلح الأمة بالمعنى العنصري الذي تجاوزته الشعوب والفكر السياسي منذ القرن الماضي ، يبدو منسجما تماما مع الفكر الذي لا يمكن ان يسمي اليهود امة إلا بناء على الدين والعرق اللذين يقصيان الآخر أيا يكن. وإذا كانت وحدة الدين أمرا واقعا فان كلامه عن الاثنية هو خلط مردود لان اليهود ليسوا اثنية واحدة بل خليط من كل الاثنيات والشعوب. وفي كل الأحوال لا يبدو كلامه هذا إلا ترجمة ملتزمة لمطلب يهودية الدولة.
أما عندما يتحدث عن تبادل الأراضي فانه إذ يضيف صفة "المأهولة" ويقول ان التبادل سيعني نقل الحدود لا نقل الناس ، بمعنى انه لا تفكيك للمستوطنات ولا تخلي عنها ، ولا قبول ببقائها خارج دولة إسرائيل ، ولذلك يجري السعي المحموم لتوسيعها ، وبمعنى ان كل شبر غير مأهول هو ارض مستوطنة موعودة. ولذلك يقول ان المرحلة الانتقالية ستأخذ عقودا ، بما يضمر أنها العقود الكافية لاستيطان كل ما تبقى لنا.
لا ينسى ليبرمان ما اغلب المسؤولين العرب: القدس. لأنه يقسم كل صباح "لتنسني يميني ان نسيتك يا إسرائيل" ، ولو ذلك لما هجر بلده ليأتي إلينا "عائدا" بعد ألفي سنة لتحقيق "وعد الهي".
ولا ينسى اللاجئين لأنه لا يستطيع ان ينسى انه يعيش مكان واحد منهم ، وعائلته مكان عائلة منهم ، ولا مكان له ولهم على ارض فلسطين.
بكل ذلك لم يقل الوزير شيئا جديدا ، ولا فائدة لنا من اللطم والاستنكار وكأننا نسمع هذا الخطاب للمرة الأولى ، أو نقرأه بين السطور حين لا يقال عاليا. إنها علة الوجود وإستراتيجية الحفاظ عليه. إذن المهم ان نسأل: ماذا نحن فاعلون لمواجهة هذا الخطاب؟ والاهم لمواجهة هذا الفعل على الأرض؟ فلسطينيون وعرب ، لا بد من إعادة النظر في كل خطابنا ، لا بد من خلع رداء الخطاب العنصري الذي يساوينا باليهودي الصهيوني ولا بد من خلع قناع الخجل الذي يجعلنا نداري في الإعلان عن ثوابتنا وتحديد كونها حقوقا لا عودة عنها.
يقاتلوننا بادعاء الدين ولا شيء سواه وعلينا ان نواجه بحقوق الأمة التي تتوفر لها كل عناصرها بالمعنى العلمي الحديث ، بحيث يشكل الدين عنصرا من عناصرها ، مكونا أساسيا في ثقافتها الشاملة لكل مكوناتها. لكننا لا نقاتل باسم الدين. هي حرب على الأرض وملكيتها وعلى الشعب وحقه فيها باسم خط تاريخي لم ينقطع يوما عن العيش والتفاعل. هذه نقطة القوة ، نحن تعدديون ، وذاك بحكم التاريخ الذي يمتد خيطه آلاف السنين بدون انقطاع. لسنا هجرة بل شعبا ولذلك كان هذا الشعب منذ آلاف السنين قادرا على تلقف جميع الهجرات وتذويبها في جسمه لتضيف الى ثقافته وتغنيه. ولم تحمل الأديان إلينا عبر الهجرات والمبشرين وإنما نبتت من أرضنا فمنا من اختار هذا ومنا من اختار ذاك ، في دلالة نقيض للعنصرية.
أما لماذا شذ اليهود عن كل هذه الهجرات؟ فهذا هو السؤال الذي يخفي لنا كنزا. لقد عاش اليهود العرب في بلداننا عصورا دون إشكال ، الى ان جاءت الصهيونية تحمل لهم ثقافة الغيتو الاوروبية ، فكانت إسرائيل أول غيتو في العالم العربي. غيتو قرر إلغاءنا قبل ان ننتبه الى انه جاء مستوطنا احلاليا. ولذلك استقبل أجدادنا المهاجرين اليهود الأوائل بالترحاب.
لا نخجل من القول ان من حقنا ان نحاربهم ، ونعاديهم ، كما حاربت فرنسا النازية ، وكما حاربت أميركا بريطانيا واسبانيا وكما حاربت الصين اليابان ، وكما حاربت فييتنام فرنسا وأميركا. علما بان أحدا من هؤلاء المستعمرين لم يدع الإحلال. لذلك لا يجوز ان يزل بنا الحديث عن عدم عنصريتنا الى الحديث عن قبولنا باليهود والتعايش معهم. فلا مقارنة بين جار ولص. وما احد يطالبك بتبرئة متباهْ بذنبه.
هذا في الخطاب أما في الفعل ، فليس لنا ان نرجو كثيرا من الحكومات العربية لأننا جميعا نعرف كيف نجح الأميركي في حشدها احدهما في مقابل الآخر والسيوف تلمع وتنعكس صورتها في مياه نهر فلسطين الضائع. ولذا لا بد من العودة الى المربع الأول والانطلاق من رحم الشعوب ، فالخير ما زال كامنا نطفة تحتاج الى تلقيح ، قد يبدو سهلا وقد يبدو عملية بالغة الصعوبة ، لكنه موجود. والصعوبة لا تعفي من التكليف ، والصراع ابعد من مقاييس زمنية قصيرة.
( الدستور )