أولويات معكوسة!! *

ولو اشتبك بلدان عربيان على برميل نفط أو جرة زيت لقرعت طبول الحرب ، وتحركت الأحلاف من كل صوب لأن العربي سليل فلسفة لخصها شاعر قديم بالقول ان ظلم ذوي القربى أشد مضاضة،
ولا ندري كيف حدث انقلاب في ليلة ظلماء بحيث قلبت الاولويات رأسا على عقب وجاءت التربويات بكل ما فيها من ألغام لتكرس هذا الانقلاب ، فالشقيق هو اللدود ، والعدو هو الحميم ، لكن ليس تبعا لثنائية ذات مرجعية عقائدية مشروطة بالحفاظ على الحق ، بل تبعا لمعادلات سياسية واقتصادية عرجاء ، فالمشهد كاريكاتوري بامتياز عندما يتجاذب طرفي الحبل عملاق وطفل أو أسد وعصفور،
وحين يحار المحللون العرب بتفسير ظاهرة استخفاف المواطن بأموال الدولة ومؤسساتها ينسون أو يتناسون هذه الاولويات التي أعيد ترتيبها بحيث أصبحت من الياء الى الألف وليس العكس ، وينسون أو يتناسون التربويات الشفوية التي يرضعها الاطفال بعيدا عن كتب المدرسة والاناشيد ، فهم يحقنون منذ أن يلثغوا بأسمائهم بمواعظ سامة ، تجعل من الآخر حتى لو كان توأما عدوا محتملا.. الى ان يثبت براءته ، ونادرا ما يستطيع اثبات هذه البراءة..
فالريبة متبادلة ، وعدم التصديق هو من صلب هذه الثقافة ، لهذا نحلف بأغلى العقائد والآباء والشرف عندما نقول شيئا عابرا لا يستحق ذلك ، ولأننا نعاقب على الصدق في طفولتنا يصبح الكذب بالالوان وليس بالابيض فقط مقترنا بالنجاة ، أما الاخطاء والانتهاكات فليس مهما وقوعها ، الأهم هو التستر عليها بحيث لا يضبطنا الآخرون متلبسين بها،
ان المسكوت عنه والمحظور الاقتراب من حدوده في ثقافتنا هو جذر البلاء وأصل الحكاية ، لهذا تحظى الهوامش والتفاصيل بالاهتمام على حساب المتون ، وتنشغل وسائل الاعلام على اختلافها في المقروء والمرئي والمسموع في البثور المتقيحة التي تظهر على الجلد لكنها لا تجرؤ على فحص الدم ، وكأن هناك مقايضة غير مكتوبة تتلخص في تحديد المسموح وغير المسموح وهذا ما يفسر حالة المراوحة على طريقة محلك سر منذ قرن على الأقل..
فالنهضة العربية أجهضت في القرن التاسع عشر ، وما أعقبها لم يكن احياء أو استدراكا بقدر ما كان بكاء على أطلالها،
ان اعادة ترتيب الأولويات في حياتنا هو بيت الداء وبيت القصيد أيضا ، وبدون اعادة الاعتبار الى ما تم تهميشه من أجل تهشيمه سوف يبقى الصراخ في الوديان بلا طائل.. وسيبقى متر من أرض الجار أو الشقيق أغلى من وطن مسروق،، (الدستور)