اقرأوا هؤلاء الأبناء! *

من لم يقرأوا ما كتبه المؤرخ ابن الاثير لا يعرفون أكثر من واحد بالالف مما فعله هولاكو بالعراق ، لهذا تمنى هذا المؤرخ وهو يرى مآذن شيدت من الجماجم لو أن أمة لم تلده كي يرى ما رأى،
لكن ابن اياس صاحب كتاب بدائع الزهور له حكاية اخرى ، فما رواه عن أهل زمانه في ذلك الخريف الأعجف لا يقبل التصديق لأنه احيانا يتجاوز الخيال ، وبالطبع لم يبتدع ابن اياس الروايات التي تقشعر لها الأبدان ، ومنها طبخ نساء لأطفالهن ، أو عجز أخريات بسبب الجوع وشلل الارادة من صد الكلاب الضالة عن مهود الأطفال..
ومما رواه ابن اياس ان الجوع بلغ بالناس حدا دفعهم الى اصطياد المارة في الشوارع والأزقة بواسطة خطافات ، فالانسان أكل أخاه حيا ، وأكمل عليه ميتا.. وحين أمر الحاكم بشنق من اصطادوا الأحياء وعلق المشنوقون على أعمدة في الشارع سارع الجياع الى اختطاف المشنوقين الموتى ولم تسلم بغلة القاضي من الاختطاف وبالتالي التهامها لأن الجوع تجاوز حدود العقل والخيال معا..
والتاريخ قد يتكرر لكن كما قال ماركس اما في صورة مأساوية أو هزلية ، فمن تشردوا من ديارهم بحثا عن الماء والكلأ في أقاصي الصحراء.. قد يعود أحفادهم الى هذه الدراما الرملية ، لكن بعد أن فقدوا القدرة على التأقلم مع هذا الحال ، فالجمل أصبح من مقتنيات السيرك وحدائق الحيوان ولم يعد سفينة الصحراء الذي يحمل الأسفار والأعباء والهوادج ، ويبقر بطنه بالسيف كي يبل الظامئون الريق،
ان للفقر متوالية لا أحد يحزر نهاياتها فهو لم يتجسد حتى الآن في رجل كي يقتله صحابيّ أو خليفة ، وقد تفاقم واستشرى لأن عوامله وفلسفة انتاجه تطورت أيضا ، الآن قد يسطو أخ على حصة أخيه وقد تأكل الحرة بثدييها اذا بلغ الجوع مداه. وقد يتنازل الانسان عن أعز ما لديه من أجل حفنة علف ، وما يجري في السر وبعيدا عن العيون المجردة يحتاج الى خيال جامح لرؤيته ، والناتىء من جبل الشقاء في محيط الفقر هو جزء يسير من الغاطس في هذا المحيط الذي استبدل الماء فيه بالدم والدمع والعرق،
ان من لا يقرأون التاريخ سوف يحكم عليهم بتكرار اخطائه ، لأنهم لم يتلقحوا ضد اوبئة بانتظارهم على قارعة التاريخ،
أما الناس الذين اساؤوا فهم الوجود ونواميسه ، وظنوا أن الموت والفقر من نصيب الآخرين فقط ، وأنهم معصومون ومؤمنون فهم الذين تنطبق عليهم مقولة من مأمنه يؤتى الحذر..
فالتاريخ لا يعترف ببوليصات التأمين لهذا لم يحافظ منتصر على انتصاره ولم يبق المهزوم مهزوما الى الأبد..
قراءة ابن اياس وابن الاثير وابن خلدون وسائر الابناء من هذه السلالة الخالدة أصبحت مطلبا حياتيا وليس معرفيا فقط ، كي يعرف العربي ما الذي جرى لأسلافه وقد يتكرر معه ، ما دامت براقش لم تغير سوى اسمها ، وشكل وجهها بسبب ما تراكم عليه من مساحيق التجميل،
ان المستقبل حسب تعريفه العلمي هو حاصل جمع ممكنات الراهن وليس قراءة أمية لحثالة القهوة في الفناجين.. وما نرجوه ونصلي من أجله هو ألاّ يكون ابن اياس وابن الأثير قادمين من المستقبل،، (الدستور)