إسرائيل» والغرب : المصير المشترك في جغرافيا هلامية..!

ليست "فارغة" تلك "الدلالة الجغرافية" ، لمفهوم الشرق الأوسط ، التي كانت سائدة حتى مطلع القرن العشرين ، والتي حاول د. غسان سلامة (أستاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون ، ووزير الثقافة اللبناني الأسبق) تفاديها ، في محاولة تحديده لمفهوم الشرق الأوسط(مقال في جريدة الحياة ، بعنوان: قراءة في مفهوم الشرق الأوسط في عصر العولمة: الشرق الأوسط.. صراعات اللاعبين ولغة المصالح ، 2009). فإبحار السفن "من مرفأ لندن ، متّجهةً شرقاً ، وحاجتها إلى التوقّف ، لتعبئة الوقود في الشرق الأدنى (أي مالطا وقبرص) ، وفي الشرق الأوسط (أي السويس وعدن) ، ومن ثمّ الشرق الأقصى (أي بومباي وما بعدها) ، يشكّل المعنى الجغرافي والتاريخي للمصالح الغربية ، في ذلك الجزء مًن العالم. فعلى الرغم من فقدان مرفأ لندن لصفته كـ"كمحورْ للعالم" ، وكذلك عدم اضطرار الأساطيل الى مواصلة التوقّف عند "محطّات الفحم الحجري" ، مْن أجل عبور المحيطات ، فإنّ المنطقة لم تخسر أهميتها الإستراتيجية العالمية. كما أنّها لم تكن "فارغة من أي محتوى ثقافي أو سياسي" ، في تلك الفترة ، بل كانت الخاصرة العثمانية الأكثر رخاوة ، والتي تمكّن الغرب ، مًن خلالها ، مًن إجتياح جسد الدولة العثمانية الممتدّ ، ومًن بعدها الشرق كلّه.
كما أنّ عبارات تعريف خطوط الطيران الدولي للشرق الأوسط ، التي حاول د. سلامة خلطها مع مفاهيم "الإنشاء السياسي" للمنطقة ، مثل: "إسرائيل وجوارها" ، أو "مًن مراكش إلى بنغلادش" ، أو "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" ، او "الشراكة الأورومتوسطية" ، أو "الشرق الأوسط الكبير" ، لا تعني العشوائية في تحديد مفهوم سياسي وجغرافي موحّد للمنطقة ، بًقدر ما تعني قلقاً وصراعاً عنيفاً ومكتوماً ، بين القوى العالمية الأكثر اهتماما وتأثيراً في شؤونها.
فالغرب ، الذي "يُخفي تغوّله عن نفسه ، وعن غيره" ، قدّم نفسه الى المنطقة ، مندمجاً ومتوحّداً مع شكل الوجود "الإسرائيلي" الحديث فيها. وهو وجود "غولي ومُنفلت وعنيف" ومُركّب ، ولم يتورّع عن إرتكاب أبشع أنواع القتل والإبادة ، لتحقيق وتثبيت وجوده فيها ، خلال نصف القرن الأخير على الأقلّ.
ما سبق يأخذ معانيه الجليّة ، وربما الصادمة للبعض ، في ما كتبه "خوسيه ماريا أزنار" ، رئيس الحكومة الإسبانية السابق 1996( - )2004 ، بصحيفة "التايمز اليوم" في حزيران الماضي ، بعنوان "إدعموا إسرائيل لأنها إذا إنهارت إنهار الغرب".
فتصريحات الرجل ، لم تتوقف عند الهدف والتوقيت السياسي المباشر لمعناها ، بل تجاوزتهما الى ما هو أعمق ، باعتبار أنّ "إسرائيل هي جزء أساسي من الغرب ، وما هو عليه (أي الغرب) بفضل جذوره اليهودية ـ المسيحية. ففي حال تمّ نزع العنصر اليهودي من تلك الجذور ، وفقدان إسرائيل ، فسنضيع نحن أيضاً ، وسيكون مصيرنا متشابكاً ، وبشكل لا ينفصم ، سواء أحببنا ذلك أم لا" (،). فبحسب "أزنار" ، فإن "إسرائيل هي خطّ دفاعنا الأول (أي الغرب) ، في منطقة مضطربة ، تواجه بإستمرار خطر الانزلاق إلى الفوضى ، ومنطقة حيوية لأمن الطاقة لدينا ، بسبب الإعتماد المفرط على النفط الموجود في الشرق الأوسط ، والمنطقة التي تشكل خط الجبهة في الحرب ضدّ التطرّف ، فإن سقطت فسنسقط معها". كما أنّ تراجع الغرب عن دعم إسرائيل ، وترْكها تواجه مصيرها وحدها ، في هذه الظروف ، دليلّ صارخ على مدى تراجع الغرب وضعفه. ذلك أنّ ، والكلام لـ"أزنار" ، الدفاع عن حق إسرائيل في العيش بسلام ، وضمن حدود آمنة ، "يتطلّب درجة من الوضوح الأخلاقي والإستراتيجي ، كثيراً ما تبدو وكأنها إختفت من أوروبا ، كما أن الولايات المتحدة تظهر علامات مثيرة للقلق ، حول السير في الاتجاه نفسه"...،،.
ولم تتوقف تصريحات "أزنار" عند حدود الكلام ، بل قام بتأسيس جمعية باسم "أصدقاء إسرائيل". وهي مبادرة افتتحت فرعاً لها في بريطانيا ، وتهدف الى "وقف عملية تآكل حقوق إسرائيل" ، باعتبارها مسألة "مهمة وحيوية لإسرائيل ولجميع الدول الغربية ، لأنه في حال سقطت (أي إسرائيل) فسنسقط جميعاً معها§. وقد ضمّت تلك المبادرة سياسيين أمريكيين ، وأوروبيين ، وناشطات وعلماء لاهوت. كما تسعى الجمعية الى "التصدي لتنامي موجة الإنتقادات ، الرامية لتقويض حق إسرائيل في الوجود ، والتصرف دفاعاً عن النفس"(،). ومن بين مؤسسي مبادرة أصدقاء إسرائيل إلى جانب "أزنار" ، ممثل الولايات المتحدة الدائم السابق لدى الأمم المتحدة "جون بولتون" ، والرئيس السابق لمجلس الشيوخ الإيطالي "مارسيلو بيرا" ، والسياسية الإيطالية "فياما نايرنشتاين" ، والمؤرخ البريطاني "أندرو روبرتس".
بهذا الإنحياز الثقافي الغربي التأسيسي ، يتقدّم الغرب الى العرب ، على وجه التحديد ، ك" مركّب غربي إسرائيلي لامتناهْ". وبه ، تتحدّد "إسرائيل" ، كانتهاكْ جوهري دائمْ ، لكلًّ فرص العرب التاريخية والمصيرية ، ومًن دون أن يترك لهم ذلك خياراً سوى "الخنوع والتبعية" ، أو "عنفّ ساحقّ" يبقيهم دوما في قاع الأمم المتخلّفة.
فمَنحُ ذلك الكيان الضئيل ، بموارده وحجمه ، قوةً تمكّنه ، بإستمرار ، من إلحاق الهزيمة بالعرب مجتمعين ، بما فيها(السلاح النووي) ، ليس له معنى سوى "عدم الإقرار للعرب ككيان جمعي محتمل بغير حياة محضة" ، يمكن محوها ، إن إقتضت الضرورات.
وهو أيضاً انحيازّ تؤكّده الدولة العبرية ، بربطها لكيانها ومصيرياً بالغرب ، تماماً كما يربط الغرب المتحضّر مصيره ومستقبله بها ، وهو ما تُعزّزه جهود وتصريحات "أزنار" ورفاقه الأخيرة. بهذا يتحدّد المعنى الجوهري لإستمرار وجود "إسرائيل" ، بما هي "تمديدّ للشرط الإستعماري في المجال العربي". ما يعني تحويل المنطقة العربية الى "مجالْ مباحْ ومكشوفْ لا كيان له" ، ويحيا على الدوام حالات إستثناء دائمة: بما يجعله دوماً "حقل صيدْ مشاعْ" ، فيمتنع بالتالي عن أن يتحقّق فيه "أمن عام أو عقل عام أو مجتمع بشري"(،).
لهذا ، ووفق منطق الاستباحة الغربي ، كان لا بُدّ مًن إبتكار إسم لقلب هذا المجال المُستباح ، بشكلْ لا يحمل أيّة دلالات ثقافية أو تاريخية. أي مجرد إطارْ جغرافي هُلامي ، يتمركز حول أوروبا ، ويتحدّد موقعه الجغرافي بالانتساب إليها ، إنّه: "الشرق الأوسط". (الدستور)