الإسلام، الحداثة والعقل

يمضي د. محمد المجالي، عميد كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، عبر سلسلة من المقالات في صفحة "دين ودنيا' في "الغد"، بنقده لمن يطلق عليهم الحداثيين، تحت عنوان "جرأة وأيُّ جرأة"، وفي اتجاه معاكس تماماً للتبجيل الثقافي العربي لكلّ من نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون بعد وفاتهما، فإنّ المجالي يتوافق مع التيار الإسلامي العام بالتشكيك بمنهجيتهما وبمآربهما الأيديولوجية التي تتوارى وراء دعاوى المعرفة فيما يكتبان ومعهما آخرون، مثل محمد الحداد وغيرهم.
ما يكتبه د. المجالي يتوافق تماماً مع مدرسة إسلامية واسعة تبدي قلقاً شديداً من عمليات إعادة تأويل الإسلام من خارج آلياته وأدواته الداخلية الفقهية والأصولية، وهي امتداد لكتابات مشابهة سابقة تأخذ المنحنى النقدي ذاته، مثل د. عوض القرني، ومحمد عمارة (في طبعته الأخيرة!)، ومحمد محمد حسين وكتابه المعروف "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، وكذلك "حصوننا مهددة من الداخل"، ولاحقاً جمال سلطان (كتابه جذور الانحراف في الفكر الإسلامي)، وبصورة أعم كتاب محمد قطب حول المذاهب الفكرية المعاصرة، الذي ما يزال يدرّس في كليات الشريعة بجامعات عربية وإسلامية عديدة.
لا أشك بأنّ الشعور بالقلق من محاولات تذويب الإسلام وتفكيكه ونزع قداسته الروحية والحرب عليه من داخل النص هو ما يحرّك هذا الاتجاه الإسلامي على اختلاف ألوانه ودرجاته، وهو الهاجس الذي ألمسه بوضوح فيما يكتب د. المجالي.
إلاّ أنّ الخشية هنا أن تنقلب هذه الدواعي إلى حواجز تغلق الطريق تماماً على الانفتاح على المنتجات المعرفية والفكرية والثقافية الغربية، تحت وطأة سؤال الهوية وتحصين الجبهة الثقافية، وذلك يضعنا تحت وطأة هاجس أكثر خطراً على الإسلام وتمثّل المسلمين له، ألا وهو الانغلاق والتوجس من الاجتهاد وإطلاق الحرية للعقل للتفكير والتحليل والتجديد والتحرر من سلطة التراث الفقهي والأصولي، في الاستفادة منه، لكن على ألا يوضع في موقع النص وبمنزلةٍ مساوية له، بعيداً عن شروط المكان والزمان وتطوّر العمران.
أحسب أنّ أستاذنا المجالي يدرك تماماً هذه القضية، وقد درس في بريطانيا وهو من المحسوبين على الخط الإسلامي المعتدل الوطني، إلاّ أن من يقرأ د. المجالي قد لا يدرك ذلك بالضرورة، فيعمّم موقفه الرافض على مفهومي "الحداثة" و"الديمقراطية" وغيرهما من منتجات فيها الجيّد والرديء، أو ما يتوافق مع مقاصد الإسلام وما ليس كذلك، فيظن أنّ الإسلام متناقض مع التحديث والحداثة والديمقراطية والعلمانية (الجزئية وفقاً لتعبير المفكر الراحل د. عبد الوهاب المسيري).
صفوة القول أنّنا بحاجة قبل الولوج في مناقشة تلك الآراء أو تحصين الجبهة الداخلية إلى القيام بمهمة معرفية وفكرية ضرورية ذات أبعاد متعددة، تتمثّل أولاً في تحديد المفاهيم، بصورة دقيقة، فالحداثة (على سبيل المثال) لها عشرات التفسيرات والتأويلات المعرفية والثقافية والتاريخية، وكلٌّ يقرؤها كما يريد (على سبيل المثال كتاب الباحث الشيعي د. توفيق سيف: الحداثة حاجة دينية)، وكذلك العلمانية والليبرالية وغيرها من مصطلحات، وأحسب أنّ ما قام به د. فهمي جدعان في كتابه "الخلاص النهائي" يمثل نموذجاً جيّداً في تحرير مفاهيم العلمانية والليبرالية والتمييز بين المضامين التي تتوافق مع الإسلام والتي تتناقض معه.
البُعد الأهم من المهمة المطلوبة يتمثّل في ألا تمنعنا الخشية على الإسلام من السير في طريق النقد الذاتي والإصلاح الديني والتجديد الفقهي والفكري والجرأة على فتح باب الاجتهاد والمواجهة العقلانية الواقعية الشجاعة مع مشكلات العصر واستحقاقاته. ذلك أنّ قدرة الإسلام وميزته الحضارية والتاريخية تمثّلت في قدرته على الانفتاح والاحتواء واستيعاب التيارات والحضارات المختلفة، وذلك يتطلب مساحة كبيرة جداً للاجتهاد والعقل والتنوع المعرفي. (الغد)