لا تُفاوًضْ !

عندما كتب الشاعر الراحل أمل دُنقل قصيدته الشهيرة "لا تصالح" حفظها عن ظهر جرح وقلب معا ، جنود عرب أحسوا بالخذلان ورددتها أرامل كن على موعد مع انتصار ، فالقصيدة لم تكن تحرض على العنف المجاني أو الحرب للحرب فقط ، وعدم المصالحة تحول الى مصافحة ، ورحلت أشياء كثيرة من عالمنا العربي مع شعراء وشهداء وعلماء ..
ما من عقل بشري يرفض التفاوض بدءا من التفاوض مع النفس وهي امارة بالسوء حتى التفاوض مع الابناء ، لكن شرط هذا التفاوض ألا يكون الطرف الآخر يقطر من أصابعه الدم ويسحق الأطفال بالسيارات والجرافات ، ويحصد الناشطين بالجملة في عرض البحر لأنهم حملوا رغيفا وعلبة دواء وكتابا الى المحاصرين من كل الجهات،
والتفاوض الذي ابتكرته اسرائيل هو من ذلك المعجم العبري الخاص الذي سخر منه يوري افنيري عندما قال ان الديمقراطية في اسرائيل لا مثيل لها في العالم بدءا من أثينا قبل خمسة وعشرين قرنا ، وحين ترد كلمة حرية أو استقلال في اي خطاب صهيوني فهي حكر على الاسرائيليين وليس من حق أحد سواهم أن يحلم بها.
لقد استعار الشاعر دنقل عنوان قصيدته من حكاية تراثية معروفة وذات صلة مباشرة بالثأر لكن الاجيال الجديدة لا تعرف الحكاية شأن حكايات اخرى عديدة حذفت من الذاكرة.. وقبل ستين عاما لم يكن أهلنا في القرى يذهبون الى السينما أو المسرح أو اندية الليل ، بل الى مقهى بلدي ينشد فيه المؤرخ الشعبي على الربابة حكاية المصالحة مع قاتل الأخ ، والآن من يقتل ليس الأخ فقط ، بل الأب والابن والحفيد والجار من أقصى الجليل إلى ربى الخليل.
لا تفاوض حتى لو أعطوك زينات الملاحْ تلك هي موعظة الراوي الذي تحول إلى رميم في قبره مثلما تحول المقهى الذي كان ينشد فيه الى طلل أو مستوطنة.. لا تفاوض لأن من يستبدل عينه السليمة بعين من الماس والذهب وأغلى الجواهر لن يرى بها وسيظل أعور حتى القيامة ، من حق الفلسطيني الآن أن يجهر برفضه للتفاوض وألا يتلعثم أو يقولها على استحياء.. فالاستيطان شمل حتى نخاع التراب والشجر والحجر ، والقتلة يواصلون ساديتهم وجرائمهم السوداء على مرأى من العالم ، فكيف يمد المرء يده العزلاء لمصالحة يد يلمع بين أصابعها سيف أو خنجر مسموم؟؟
المسألة اذن أبعد من اي اختصار لها ، فمن قتل الجد وسلبه تجرأ على قتل الابن وسرقته ، لأنه لم يعاقب لهذا سال لعابه على دم الحفيد ، وها هو يطحن عظامه في الشارع ، ويسحقه بسيارة فاض الحقد من سائقها الى عجلاتها وحديدها،
لا تفاوض قبل أن يقف الذئب عند حده ، وقبل أن يرضخ لمطالب البشرية كلها على امتداد خطوط الطول والعرض لهذا الكوكب..
وان شئت أن تفاوض فابدأ منك ومن توأمك اللدود فالطريق مليء بالكمائن بين رام الله وغزة،، (الدستور)