لمن لا يزال يذكرها

حسب كبار المفكرين والمحللين والفلاسفة ، فان هناك صفات وخصائص عديدة ومختلفة جرى ترديدها ، في محاولة للتعرف على حقيقة هذه الامة في الزمن الراهن ، ولا يكاد نعت سلبي لطبيعة الواقع والاداء العربي الا ويمكن ان لا يكون له نصيب من الصحة وبالاضافة الى كل وصف سيىء او بشع يتم اطلاقه من قبل ابناء هذه الامة بدوافع الاحباط واليأس ، والفزع من تدني الاوضاع وتردي الاحوال ، فان لدي ذعرا من ان تكون الامة قد شاخت وانها اصبحت مصابة بمرض فقدان الذاكرة "الزهايمر".
اليكم غزة التي طمست اخبارها ودورها في الاونة الاخيرة الا من إشارات الى تقرير غولدستون او التحقيق بمجزرة اسطول الحرية وكأن ذكر غزة او عودتها الى دائرة الاهتمام يحتاج الى محرقة اضافية او مجزرة شاملة حيث لا تكفي المجازر بالقطَّاعي التي ترتكب ضد غزة واهلها بشكل متصل واذا لم تحدث هذه المجازر كل يوم فهي تحدث كل اسبوع،،.
والمريع انه لدى الحديث عن مفاوضات وحل من اجل فلسطين والمباشرة في المحادثات لا يأتي ذكر غزة التي لا يذكرها احد اليوم.
وتغيب غزة كقضية ومأساة ومذابح وحصار مستمر عند الاهتمام الجدي لكل العرب والمسلمين وبالكاد يذكرها حتى نجاد في بيروت او في جنوب لبنان ويتبقى لغزة حزن الشعراء وحسرات وخيبات المفكرين العرب الذين تعيش غزة في قلوبهم ومنهم صديقي وزميلي محمد رفيع ليس كأحد ابناء غزة ولكن كابن لهذه الامة وما يقوله يتراوح بين المرثاة وبين استنهاض الهمم وشحذ الوعي فالعرب في رأيه هم الذين يغرقون في غزة قبل ان تغرق غزة في بحرها وفي رمال سيناء.
لم تعد الأخطار تتربص بالرجاء ، وحسب. فالصحوات ، التي تُحدثها شمس السراب عادة ، تكف عن فعلها. تماماً كالسائرين في العراء. أو كمن تلبّس العراء مسيرهم: بداهات تنقلب على ذاتها. وصول متأخر إلى أسئلة الحقيقة. فشل في صياغة أسئلة الحاضر. ساقطون لا يسقطون وحدهم. عبثّ لتعويض عجز السياسة بقوة قوانين ، يدرزها خياطون على عجل. وركض سريع على رمضاء ، نحو مقادير من الرمل.
على ورق التبغ ، صاروا يكتبون مآثر الشعوب. ومنها مأثرة ألمانية تقول: عند كفاحك من أجل الحقيقة ، لا تلبس أجمل ثيابك. وفي بلاد وضعها الربُّ على طريق الغزاة والفاتحين ، يلبس المحاربون آخر صيحات الجاب والجينز ، « البقية ص6»
وأقنعة قذفها طريق الحرير الجديد لتوه ، على معابر اختلفوا في تسميتها.
كلما انحلّت عقدة نصْ ، جاءت أختها. فصار اليأس ، بتكراره الممل ، جنّازاً. وقطرات الضوء القادمة من دمهم ، تنقلب بسحر عجيب إلى عتمة.
غزة تخلع ثيابها ، ولا تتعرى. فعُريها فاضح ، منذ أكثر من ستة عقود. لم يعلمونا في المدارس ، ان غزة كانت البوابة التي استباح فيها الغزاة شرق المتوسط كله ، قبل تسعة عقود.
فمنها أُحتلّت مدن ، بعد تمنع. ومنها قدّم الجنرال أللنبي القدس هدية للأمة البريطانية بمناسبة أعياد الميلاد. وفيها دفن الغزاة والمدافعون أكثر من خمسين ألفاً من قتلاهم. ومن غزة امتدّت طريق الفاتحين الكومنولث إلى دمشق وحلب وبيروت.
ورغم هذا ، لم يتنبه العرب إلى قيمة غزة الاستراتيجية ، بعد ان حوّلها الاحتلال الجديد إلى مكب بشري يشبه اللعنة. وحدها الجامعات العبرية ، اكتشفت مؤخراً ان العثمانيين حكموا فلسطين كلها ، وبعض جوارها ، بعائلات غزة ، وطوال أكثر من أربعة قرون ضلعان من قارتين هي غزة. يركد فيها المتوسط ، ويرق ، كما لا يفعل البحر في أي مكان في الدنيا. أربعون كيلو متراً ، هي آخر ما تبقى للعرب من متوسط فلسطين. مستودع من البشر ، هو هو الحكاية الفلسطينية كلها.
بالأناشيد الرديئة يُفقدون البحر لونه. فتحتل الكآبة ما تبقى من هواء البحر. هم يعرفون ، وخصومهم أيضاً ، تفاصيل الفضيحة. فهذا الصخب محمول على حرس وعسس صخبّ يرتجله هواة متعجلون ، ويبرره كتّاب وأدباء وشعراء محمولون على ناقلات جنود وفضائيات.
عند الشعوب البدائية ، تتشابك طقوس الدين بطقوس الحرب. وعندهم ، ان رقصة الشمس هي صلاة عنيفة ، من أجل الثأر والانتقام. صلاة وصلوا إليها بعد أن تحولت مآثر الحرب ، ومجدها العسكري ، إلى مضمون أساسي ووحيد للعبادة.
ثمة أحدّ ، أو أحدات ، يوهم المتحاربين هناك ، بأن التاريخ يمكن له ان ينتظر أمة ، أو شعباً أو قبيلة ، تموت قيمها وثقافتها ، وتترك لخصومها حرية اقتلاع علامات البطولة والشهامة والكرامة الحقيقية على طول حدود ثقافتها في كل الاتجاهات.
بنبض محرّم. وقبضْ معمم. يستتر إرهاب أصيل خلف حجاب. فتكف اسئلة العصر والبداهة عن جدواها. وتبدأ ، هنا وهناك ، أزمان أخرى مختلفة..،،. (الدستور)