بين رمضاء العروبة ونارها!

انها حكاية كريستو الشهيرة ، الرجل السجين الذي حفر أعواما في احدى زوايا زنزانته ليجد نفسه في زنزانة مجاورة أشد وحشة وصقيعا وأضيق من الأولى ، والعربي الذي كان ذات يوم رحالة لا يقر له قرار سحبت الصحراء من تحت قدميه ، وصار ملتصقا بالصمغ بالمكان الذي علق به ، وثمة مثل لبناني يختصر هذه الدراما كلها يقول: من خلق عًلًق ، ونحن جميعا علقنا لأننا خُلقنا أولا ولأن وطننا العربي رغم اختلاف تضاريسه ومناخاته يعيش وحدة سلبية من طراز فريد قدر ارتباط المسألة بالفقر والتخلف والارتهان.
وعندما اجتاحت اسرائيل لبنان عام 1982 كتب الشاعر الباقي محمود درويش يقول: لمن قرروا أن يشدوا الرحال.. حيثما وليت وجهك كل شيء قابل للانفجار..
والعربي التائه اذ يتجول في هذه التضاريس يسمع لهجات مختلفة ، لكنه سرعان ما يعثر على القاسم المشترك الأعظم وهو اليأس والاحباط وانصراف الناس الى شجونهم الصغرى بعد أن شعروا بأن نصف قرن من الحراك الكاذب والوعود العرقوبية ذهب سدى،
ان ما يشبه عالمنا العربي من أقاليم هذا الكون قد تغير واستدعى كل احتياطياته كي يخرج من القمقم ، ولم تكن عدة شعوب من العالم الثالث أوفر حظا من العرب في الاقتصاد والعلم والعافية ، لكن الفارق الحاسم هو ان هناك من يتأقلم مع الظرف الشاذ والطارىء ويحوله الى قضاء وقدر مقابل آخرين يعلنون العصيان على هذا الطارىء الشاذ ويقاومون بما تيسر وما تعسر ايضا كي يتجاوزوا شروطهم ويخرجوا من المدار المغلق المعتم،
ما الذي ينقص العربي انسانا ومثقفا وناشطا كي يخرج من هذا المدار الجحيمي؟ انه يمتلك مقومات التخطي لكنها معطلة وثمة عبقرية اجهاض تتربص بكل من يحاول الانعتاق ، فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والاجهاض يجدد ويطور أدواته للحيلولة دون أي نهوض أو أية قيامة.. وثمة تحالف غير مقدس بل هو شيطاني بامتياز بين عاملين أحدهما خارجي رغم كل التحفظات على مفهوم المؤامرة والآخر محلي من صميم هذا الواقع العربي ، ومبرر هذا التحالف هو الضرر الذي قد يلحق بالسارق ، والدليل الذي تولى قيادته الى الخزائن ، فكل العملات القديمة والبائدة تخشى من الطرد وكل من فقد وعيهم صلاحيته التاريخية يريدون للزمن أن يتجمد عند لحظة ما ، لهذا فالحرب قائمة بين الماضي والمستقبل ، لكن من خلال تجليات قد لا تستطيع العين الكليلة رصدها ، والأرجح ان محاولات التطوير "الموضعية" في عالمنا العربي لن يكتب لها النجاح لأنها مخلوعة من سياق به تكاملية من طراز فريد ، واذا كان هناك مشاريع نهضوية في النطاق القومي قد عاشت ولو بساق واحدة وعكاز فذلك لأنها تجاوزت الموضعي الى الشامل.
ومن يملكون الذاكرة التاريخية ذاتها وان بقدر من التفاوت لن يكون لكل منهم مستقبله الخاص.
اننا نتنقل بين رمضاء هذه العروبة الجريحة ونارها ، ونكتشف في كل مرة وبعد فوات الأوان ان من ثقب السفينة تحت مقعده غرق وأغرق من معه،،"الدستور"