جرائـم رمزيـة

ما سماه فرويد جريمة قتل الآباء وجد من يؤوله فنيا وسياسيا واقتصاديا ، فثمة من يتعجلون ميراث آبائهم بحيث يقتلونهم بشكل مباشر أو ببطء لكن هؤلاء يعاقبون بالحرمان من الميراث ، وفي الثقافة ثمة من لا يطيقون سماع صوت من كانوا آباءهم وولدوا بالفعل من عباءاتهم أو معاطفهم لا فرق ، أما السياسة فان حكايتها تطول.
وقد انتقلت عدوى قتل الآباء الى المدن العربية ، فلكل مدينة سرّتها ومركزها العريق ، بكل ما يعنيه من قوة جذب وملامح وهوية عمرانية ، اضافة الى ذاكرة المكان التي تحول المكان بمرور الوقت الى زمان،
معظم المدن العربية خصوصا العواصم هجرت مراكزها وانتقلت الحياة الى الضواحي التي تتمدد بشكل سرطاني وعشوائي فلا ملامح ولا ايقاع ولا ذاكرة ، وقد تكون العودة مجددا لاصلاح وترميم مراكز المدن بمثابة اعتذار عن الهجران ، لكن هذا الاعتذار قد يصبح أقبح من الذنب ذاته ، اذا تم الترميم وفق رؤى طارئة ومنبتة الجذور ، بحيث لا تعود هذه المدن الى ما كانت عليه ولا تتحول الى مدن عصرية..
وحين يأتي الباحثون والمؤرخون العرب الى ذكر الاسباب التي أدت الى هذا الهجران والعقوق لأمكنة ممهورة بايقاعات الأسلاف ، لا يلتفتون الى ما يمكن تسميته تصفية الحسابات الطبقية ، فثمة مراهقون فكريون ينظرون بارتياب الى كل ما أنجز في الماضي حتى القريب منه ، ومنهم من يتطرف الى الحد الذي يدفعه الى تكرار ما فعله الروس عندما حاولوا خلع سكك الحديد لأن الذي أنشأها هو ستالين ، ويروى عن أحد المتطرفين المزايدين انه طلب من عبدالناصر بعد ثورة يوليو أن يمنع أم كلثوم من الغناء ، لأنها تنتمي الى ما قبل ثورة يوليو ، فسخر منه عبدالناصر وقال له.. اذن لنخلع الأهرام من جذورها لانها كانت موجودة قبلنا وقبل ثورة يوليو،
ان المبادرات في مختلف العواصم العربية لترميم ما قضمته عوامل التعرية من العمران تظل رغم النوايا مجالا حيويا للسجال حول مفهومي التحديث والاصالة ، فان كان المقصود هو اعادة انتاح الماضي بشروط الراهن ورؤاه فان ذلك مجرد كاريكاتور ، لان هناك من المعالم والملامح العمرانية ما لا يقبل التلاعب به لان لكل زاوية من زواياه وظيفة معمارية بقدر ما هي حياتية.
فالخوابي في بيوتنا القدمية هي بديل الثلاجات واعترف بانني بكيت بحرقة عندما استضافتني عائلة فرنسية في الجنوب في بيت بني قبل قرنين ولم يغير من معماره شيء رغم ان ان سلكا كهربائيا واحدا اتاح لاصحاب البيت ان يضيفوا الى تاريخه الفاكس والانترنت والثلاجة والمكنسة الكهربائية والهواتف.
نحن هدمنا بيوتا كان يمكن الحفاظ عليها بسلك كهرباء.. ودمرنا عواصم كي نشيد عشوائيا الضواحي التي رغم فخامة معمارها تبقى صماء وبلا ملامح،، (الدستور)