مشردون في وسط البلد

هي عمان ، ولانها قلب نابض ، فاني اشفق عليها ، من هذا الذي يحل فيها يوماً بعد يوم ، كزيتونة تتم سرقة ضيائها.
اذا اخذتك الصدفة او التواقيت الى وسط البلد بعد الثانية عشرة ليلا ، فسترى بأم عينيك كيف ينام المشردون في وسط البلد ، في مواقع عدة ، صيفا وشتاء ، على مرأى المارة وعابري السبيل.
في ساحة المسجد الحسيني ، تجد عدداً لا يتجاوز عدد اصابع اليدين ، وقد ارتموا ارضاً ، احدهم ينام على كرتونة ، ويتغطى بكرتونة. واحد اخر فراشه الارض ولحافه السماء ، وثالث يرتشف الشاي المعتق.
في مناطق اخرى من وسط البلد ، تجد مشردين ينامون في ازقة المحلات التجارية ، وفي مواقع معتمة ، فاي شعور بالغربة استبد في قلبي ، وكم بقي من عمان التي نعرفها وتعرفنا.
سواء كان هؤلاء من السكارى كما يقول احدهم ، او من المدمنين ، او من الاباء المطرودين من حضن الابناء العاقين ، فان المشهد برمته مؤلم ، وكأنك في مدينة حجرية بلا قلب او عاطفة.
المشهد الاجتماعي في البلد لا بد من الوقوف عنده. عقوق والدين وفساد اخلاقي ، وضياع في الشوارع ، ومفاسد اخلاقية ، وغياب للتدين الرقيق النوراني ، ونصب واحتيال وقتل وجريمة ، وفوق هذا شبكات نصب واحتيال وتسول.
مشردو وسط البلد ، نوعان ، الاول تراه ليلا وينام في ازقة وسط البلد ، وفي مواقع عدة ، والثاني تراه نهاراً يتجول بحثا عن لقمة الخبز ، ثم تبتلعه المدينة في موقع اخر ، وفي زقاق معتم اخر.
عمان ، لم اعد اعرفها. اذ تخفت وراء قناع العصرنة ، وضاعت وسط الوجوه ، وقد رأيت قبل ايام مريضاً ارتمى ارضاً لاصابته بمغص كلوي ، فمر من جانبه العشرات ولم يقترب لمساعدته احد ، لان الكل خائف ، والكل لا يريد مساعدة الكل.
خلف كل وجه وجه. خلف كل كلمة كلمة. خلف كل حرف حرف. وخلف كل مدينة باتت هناك مدينة لا نعرفها.
ليس اسهل على متأبطي ملفات الاحصائيات والدراسات من الادلاء بتصريح يقول: عدد المشردين كذا ، وان نسبة منهم من مدمني الكحول او المخدرات او المطرودين من بيوتهم ، وكفى الله المؤمنين القتال.
كل شيء تغير. ألم نقرأ قبل ايام عن مئات الدعاوى المرفوعة من اباء على ابنائهم ، لانهم يريدون نفقة مالية ، فلماذا وصلنا الى هذه الحالة التي يضطر فيها الاب الى ان يأخذ الابن العاق الى القضاء.
ليس اسهل من معالجة قصة مشردي وسط البلد بارسال دورية شرطة لسجنهم او منعهم من النوم في الشوارع ، وهو حل يفاقم المشكلة.
ذات ليلة باردة لا زلت اذكر عجوزاً ينام عند باب المسجد الحسيني ويرتجف من شدة البرد ، واذ سألته عن حاله قال ان اولاده طردوه ، وان كل ما يريده ساندويش ، وسينتظر صلاة الفجر ليصلي ويرتحل الى شوارع عمان التي باتت بلا ذاكرة.
ترى من المشردين نفراً اخر ، في منطقة الساحة الهاشمية ، وفي حدائق اخرى ، وفي شارع الجاردنز ، واذ نتحمل كلنا مسؤولية هذه التغيرات التي تعصف بنا ، لنسأل: اين عروق الحياء في اجسادنا ، ولماذا لم تعد تحركها غيرة على احد.
شبعنا كلاما عن السياسة والحكومات والانتخابات والوضع الاقليمي ، وكل هذا الكلام لا قيمة له ، امام الملف الاجتماعي بكل تداعياته ، وهي تداعيات لا بد من حل لها ، قبل فوات الاوان.
ثم تحدثك الحكومات عن ابداعاتها ، لكنها تغمض عيونها الرمداء عن هكذا قصص. (الدستور)