الخرائط ليست جغرافية فقط!

ساد في الاعوام الاخيرة مصطلح تغيير الخرائط وتوقع الناس ان هناك اطالس جديدة قيد النشر لان الاطالس الكلاسيكية لم تعد تصلح للتضاريس السياسية الجديدة للعالم وبالتحديد لهذا الشرق الاوسط الذي تعددت اوصافه من الجديد الى المحسن الى الكبير ، وان كانت هناك صفة هي الاهم لا يتحدث عنها احد وهي التي كرس لها شمعون بيريز كتابه الشرق الاوسط الجديد ، فالشرق الاوسط حسب اطروحة بيريز ليس جديدا او كبيرا بل هو مهود ومؤسرل،
لقد بدأ بالفعل تغيير الخرائط لكن بدءا من تقسيم الوطن العربي مجددا بحيث يصبح ما انجزه السيدان سايكس وبيكو مجرد خطوط عريضة ومسودات اذا قورن بما تولاه العرب انفسهم ومن تحدثوا عن تغيير الخرائط في الجغرافيا لم يفطنوا الى متغيرات التاريخ والبشر. فالذي تغير بالفعل هو الانسان الذي اصبح يستخدم اكثر من تسعين بالمئة من عقله وذكائه من اجل ان يأكل ويسكن ويعيش فقط ، وتغيير الكائنات على هذا النحو البائس الذي يدفع الانسان الى ان يعيش ليأكل فقط اخطر بكثير من تغيير خرائط الجغرافيا ، لان النجاح في تجريد البشر من وعيهم التاريخي واعادة انتاجهم كقطعان يؤدي بالضرورة الى رخاوة الجغرافيا التي يعيشون فيها ، فقد تسلب اوطانهم بالتقسيط ، وقد يسحب التراب من تحت اقدامهم وهم اخر من يعلم ، لانهم منشغلون في شجون اخرى لا تزيد كثيرا عن الاشباع البدائي للغرائز،
ولو قام احد المراقبين برصد المتغيرات البشرية في عالمنا لوجد انها بلغت حدا كارثيا ، فقد اعيد ترتيب الاولويات ولم تعد هواجس الاستقلال والسيادة هي المحرك الاول للوعي ، خصوصا بعد ان تحالف الاحباط في نوباته المتعاقبة مع القهر وانتهى الامر الى ان ينكفىء كل فرد داخل شرنقته ويكرر مقولة جحا الحمقاء عندما قال ان ما يحدث في العالم من حوله لا يعنيه ما دام بعيدا عنه فما من شيء الآن بعيد عن الانسان حتى لو هرب الى غابة او جبل فالاقمار الصناعية تطارده ، والتلوث بمختلف انماطه يفترس عافيته ، ولن تتحقق له النجاة من الحروب العمياء التي لا تفرق رغم ذكاء صواريخها وقنابلها بين سجن وجامع وبين مدرسة وخندق،
لقد غُيرت خرائط ونحن لا نعلم ، والاطلس القديم الذي نتصفح تضاريسه لم يعد صالحا لان حدود الدول رخوة ، والالوان المخصصة للتمييز بين التضاريس اصبحت كلها بالاخضر الامريكي، لكنه ليس الاخضر الطبيعي بلون العشب كما قال الشاعر الامريكي والت ويتمان بل هي خضرة الدولار رغم سواد داخله،
اننا نعيش عصرا غريبا في تقاويمه السياسية ، فثمة حروب وضعت اوزارها قبل ان تبدأ ، وهناك احتلالات انتهكت نخاع الاوطان تحت اسم التحرير والدفاع عن حقوق البشر،
ان خرائط السايكولوجيا الانسانية هي التي تغيرت ، لكن تعلقنا بالجغرافيا حال دون مشاهدة او رصد ما جرى للتاريخ،، (الدستور)