قرأنا .. وما قرأنا

يسخر بعض المثقفين العرب من بعضهم ومن انفسهم احيانا انسجاما مع ما اصابهم من مازوشية تدفعهم الى التلذذ بالألم فيرددوا كلمات فيروزية.. منها كتبنا وما كتبنا يا خسارة ما كتبنا ، ليس لأن المكتوب لم يصل الى المرسل اليه ، أو لأن الكتابة كانت على الماء او الرمل ، بل لأن ما تمنوا تحقيقه من خلال الكتابة بقي عصيا على التحقيق ، فلكل كاتب ليلاه التي يغني لها وأحيانا عليها ، وهناك من اساء منهم الكتابة أصلا فكان رهانه على مكاسب اجتماعية أو جاه أو ثروة أو شهرة سريعة الزوال ، لهذا لا يوجد في اية ثقافة غير ثقافتنا عبارة من طراز : فلان أدركته مهنة الادب.
اننا لا نقول كتبنا وما كتبنا يا خسارة ما كتبنا ، لأن المرسل اليهم تسلموا الرسائل تباعا ومنهم من رد عليها بمثلها أو بأحسن منها ، لكن ما نقوله ونحن حتما على حق.. يا خسارة ما قرأنا.. لأن القراءة شجن آخر غير الكتابة ، فنحن قرأنا منذ لثغنا بهذه الابجدية عن الحريات والديمقراطيات وحقوق الافراد في صياغة مصائرهم والدفاع عن حقهم في الاختلاف مزاجا وفكرا وقرأنا عن كائنات لولاها لما كان حال شعوبها وبلدانها على ما هو عليه الآن.
أذكر مثلا ان كاتبا فرنسيا قال عن بول فاليري بأنه لم يكن بحاجة الى فرنسا لكي يكون هو.. أما فرنسا فقد كانت بحاجة اليه كي تزهو به.
قرأنا عن آباء وأمهات كانوا يعزفون البيانو عندما كان أطفالهم يتدربون على المشي وقرأنا عن قادة مثل تشرشل وستالين كانوا يشعرون بالفخر لأنهم من بلاد أنجبت شكسبير وديستويفسكي ، وقرأنا ايضا عن لوحات عادت الى مساقط رؤوس من رسموها بعد الاستقلال وهي محروسة في السماء بطائرات مقاتلة ، كم قرأنا وكم أغمضنا عيوننا المبللة ونحن نقارن ، والاسوأ من هذا كله اننا صدقنا ما قرأناه ، وقلنا ان ما لم يحدث حتى الان سوف يحدث غدا ثم مرت متوالية الايام والعقود والحال على ما هو عليه ، ورغم ان كتابنا السماوي الكريم يبدأ بفعل الامر اقرأ الا ان اعداءنا يكررون في كل مناسبة باننا من اقل شعوب الارض قراءة ، وهذا ما قاله موشي دايان عدة مرات عندما علق على سؤال حول خطته المتكررة في احتلال سيناء عامي 1956 و 1967،
والقارئ في مجتمعات تعزف عن القراءة لا يحسد ولا يغبط ، وان كان لا بد من تشبيه فان الفقير في بلد غني اسعد حالا من غني في بلد فقير،
وبيننا اناس يظنون ان القراءة والكتابة هي حالة طبيعية تشبه حياة الماعز مثلا فالعنزة ترضع لفترة من الوقت ثم تتفرغ للحليب ، لهذا فان البعض ما ان يخط سطرا حتى يعزف عن الرضاعة سواء كانت للحبر او لما سطره الاخرون بدمائهم على صفحات الكتب..
لسنا مع القائل يا خسارة ما كتبنا لان الرسالة كما قلنا من قبل عثرت على المرسل إليه ، لكن الخسائر الكبرى هي بسبب قراءة تفتضح المسافة والفجوة الكارثية بين الواقع والمتخيل، (الدستور)