«القاعدة» وفرنسا

لعلها الإطلالة الأولى منذ زمن بعيد ، التي يعود فيها أسامة بن لادن ، لممارسة "هوايته" في الحديث عن "حال الأمة" وتوصيف معسكري الأعداء والأصدقاء ، ورسم التخوم الفاصلة ما بين "الفسطاطين". آخر إطلالات ابن لادن اتخذت شكلاً "إنسانياً" أملته كارثة الفيضانات الباكستانية ، والحاجة لمد يد العون ، لثاني بلد مسلم منكوب.
أمس ، كانت فرنسا تحديداً ، فرنسا قبل غيرها وأكثر من غيرها ، على موعد مع زعيم القاعدة ، عرض على مسامع الفرنسيين شروط "صك الإذعان" ، التي ما أن يقبلوا بها ، حتى يأتيهم "العفو" و"الفرج" من "مكان ما" على الحدود بين الباكستان وأفغانستان ، وإن أبوا واستكبروا ، فليس لهم سوى الويل والثبور وعظائم الأمور.
لا أقل من انسحاب فرنسي من أفغانستان ، وانكفاء باريس عن حروب الاستكبار ضد المسلمين في العالم ، وتراجع "عاصمة الأنوار" عن قانون "حظر النقاب ودفع الجزية"، عشرة ملايين دولار فدية عن الرهائن الخمسة المختطفين في النيجر ، تدفع لمن يعنيهم الأمر ، عداً ونقداً.
هنا تختلط السياسة بالدعاية ، أو بالأحرى بالدعوة ، فما من عاقل يعتقد أن مطالب كهذه يمكن أن تكون "واقعية" ، لكن مع ذلك يريد ابن لادن أن يدرج عمليات خطف الرهائن الفرنسيين في أفريقيا ، ما تم منها ، وما قد يأتي ، بالسياق العام للحرب ضد "فسطاط الكفر" ، الذي تحتل فرنسا (ساركوزي ـ كوشنير) خندقاً متقدماً فيه ، واستحقت لهذا السبب بالذات ، غضب القاعدة وغضبة مؤسسها وأبيها الروحي.
لن يكون مستبعداً أبداً ، أن تكون إطلالة ابن لادن بمثابة "شارة البدء" لخلية نائمة هنا ، أو "الضوء الأخضر" لمجموعة "تتثاءب" هناك ، وليس مستبعداً أبداً أن يكون هدف القاعدة التالي في قلب فرنسا ، وليس فقط في النيجر ومالي وعلى تخوم الصحراء الأفريقية الكبرى.. القاعدة بحاجة لما يساعدها على استنهاض صفوفها من جديد ، القاعدة بحاجة لقوة دفع تسرع "عودتها" للمسرح الدولي ، بعد انحسار اضطراري أملته الحرب الكونية على الإرهاب.
والحقيقة أن ثمة ما يشير إلى أن القاعدة ، عادت للملمة شتات نفسها في أكثر من موقع ، فهي تحتل مكانة مهمة كلاعب محلي في اليمن ، وهي مصدر تهديد حقيقي في شمال وشرق وغرب أفريقيا والساحل ، وهي قوة لا يستهان بها في الصومال والقرن والأفريقي ، وهي ما زالت تحظى بنفوذ ووجود متجددين في العراق ، على الرغم من الضربات القاسية التي تعرضت لها على يد الصحوات والولايات والأمن العراقي ومخابرات عرب الاعتدال ، ساعد على ذلك بؤس العملية السياسية الجارية في العراق ، وانتهازية النخب السياسية وأنانيتها و"مذهبيتها".
لا يمكن التقليل من شأن "التهديد القاعدي" لفرنسا ، فهو كما قالت باريس ، يجب أن يؤخذ على محمل الجد ، و"إذا قالت حذام فصدقوها.. فان القول ما قالت حذام" ، على أن الحكمة تقتضي من فرنسا ، إدارة معركتها مع القاعدة بكثير "التعقل" و"التروي" ، وهما أمران لم يعودا ملازمين لسلوك باريس ودبلوماسيتها في زمن ساركوزي - كوشنير ، اللذين بتقاربهما الشديد مع واشنطن ، يخاطران بتحميل بلديهما وزر السياسات والحروب الفضائحية ، التي خاضتها واشنطن في السنوات العشر الأخيرة ، وعلى غير ساحة وجبهة على أية حال.
لا نقول ذلك من باب تبرير "استهداف القاعدة لفرنسا" بأي حال من الأحوال ، ولا نقترح "تفهماً" من أي نوع لما أدلى به أسامة بن لادن من تهديدات أمس الأول ، ولكن للتذكير ، تذكير فرنسا ، بأنها كانت لتكون في وضع أقوى في العالمين العربي والإسلامي ، وهي تواجه "تهديد الإرهاب" لو أنها حافظت على إرثها الأوروبي المستقل ، ولم تزحف بتسارع نحو "الأطلسي" وعبره إلى واشنطن. (الدستور)