عن الكاتب إذ يُضبط في حالة تلبّس *

ليست وظيفة الكاتب والمحلل السياسي ، إرضاء جمهور القراء ، واستدرار عبارات الإعجاب والتثمين ، مثل هذه الفرضية من شأنها أن تخضع الكتابة لحسابات "شباك التذاكر" ونظرية "الجمهور عاوز كده" ، ومن نافل القول بأن للكاتب مهمة تنويرية قيادية ، لا يصح أن يتخلى عنها ، والكاتب الذي يقرأ ويكتب "من خارج الصندوق" ويضطلع بدور الناقد والمرشّد للسياسات العامة والتوجهات العامة ، هو الكاتب الذي يستحق التقدير والاحترام ، بل وهو الكاتب الذي يمتلك فرص الاستمرار والقدر على عبور الحقب والمراحل.
مثل هذا الكاتب ، عادة ما يلقى التأييد من فريق من المواطنين ، يتسع عددهم ويضيق ، تبعا للظرف والموضوع والحالة ، بيد أنه يتلقى أيضاً ، النقد القاسي ، البالغ حد التجريح - ربما - من قبل فريق آخر منهم ، على أنه مع ذلك يظل يقوم بدوره كعامل محفز للوعي ومستفز للعقل ومنشط لحب المعرفة وزيادة الطلب عليها ، كاتب مثير للجدل والتشاكل ، أي بمعنى من المعاني ، كاتب منتج للأفكار بما يطرحه وما يستولده منها.
على أن بعضاً من كتابنا ممن امتهنوا التسبيح بحمد كل الحكومات والسلطات والمنظمات ، البعيدة منها والقريبة بخاصة ، الفقيرة منها والنفطية بخاصة ، ارتضوا أن يكونوا كتابا مثيرين لنوع واحد من الجدل ، جدل هو أقرب للشتائم المبتذلة و"الردح" المتهافت ، والذي عادة ما يناله منه ، نصيب الأسد والنمر والضبع والذئب مجتمعين.. فهو إذ ارتضى أن يكون "شتّاما" لفريق سياسي معارض معيّن ، وإذ تقبّل تقمّص دور "الردّاحة" كما في أرذل أفلام الانحطاط المصرية ، فإن عليه أن يتوقع قيام "أحد ما" ، برد الصاع صاعين له ، بعد أن تكون "هالة الكاتب الجدلي" قد نُزًعت عنه ، وبات يُعرَف باسمه الحقيقي ، كببغاء يردد كلام سيده ، من دون تفكير أو تمحيص.
حين تقرأ أزيد من أربعين تعليقاً على مقال لكاتب معين ، ولا تجد من بينها تعليقاً واحداً يساند الرجل ويعاضده ، أو حتى يعترف له بمجرد الحق بالاختلاف والتعبير ، فإنك تدرك حجم المشكلة التي نتحدث عنها.. وحين ترى توقيعات القراء من شتى المنابت والمشارب والأصول ، تذهب في طريق واحد ، تصبح قادراً على تقدير حجم التطاول الذي يقارفه هؤلاء على ذاكرة الناس ومشاعرهم وضمائرهم.. وحين تكون أغلب هذه التعليقات قد خضعت لمقص الرقيب لتفادي "الشتائم الشخصية من العيار الثقيل" ، فأنت تضع بلا شك ، يدك على "الجرح الغائر" الذي تسببت كتابات هؤلاء بنكئه والتهابه.. وحين ترى التحليلات والتفسيرات والتأويلات المبثوثة في كلام القراء ، فأنت بلا شك تصبح قادراً على قراءة السيرة الذاتية لمثل هذا النمط من الكُتاب ، بل وتصبح قادراً على تتبع "تقلبات وجهه في السماء" من دون أن تكون قادراً على أن تقترح عليه "قًبلةً يرضاها".
مثل هذا الوضع الذي قد يجد كاتباً ومثقفاً نفسه فيه ، لا علاقة له أبداً بـ"وظيفة تنويرية" ولا بـ"دور قيادي" ، وأجزم بأن ليس للأمر صلة بما يمكن أن يقال عن "كاتب إشكالي" ، مثل هذا الوضع يندرج عادة في خانة فساد الكتابة والكُتاب ، ويشي بتحوّل المثقفين إلى خدمْ أرقاء في بلاط السلاطين ، وملحقين أذلاء في ركاب السلطات وأصحاب المال والجاه والنفوذ.. هؤلاء استحقوا غضب القراء وعقابهم ، هؤلاء بالضبط هم التجسيد للكلمة في لحظة سقوطها ، والصحافة في لحظة خيانتها لرسالتها ، وللمثقف مضبوطاً في حالة تلبس بجرم تأجير قلمه وعقله وضميره(الدستور)