دونكيشوت الأمريكي!

في الحروب ذات الذرائع الملفقة ، والتي تلبي شهوات الجنرالات وتعبر عن مصالح كولونيالية ، بحثا عن مجالات حيوية ، يندر وجود الابطال ، وان وجدوا فهم من طراز آخر ، لأنهم يرفضون شهادة الزور حتى النهاية أو ينسحبون من الحلبة قبل أن ينكشف الأمر وحروب ما بعد الحداثة أو حروب الاستباق كما جسدتها الولايات المتحدة في السنوات العشر الماضية والتي دشنت ما سماه البعض العصر الامريكي في القرن الحادي والعشرين كان دونكيشوت هو بطلها ، وبجواره سانشوا المرافق الصغير الذي تولى رواية انتصاراته الوهمية على طواحين الهواء..
أخيرا اكتشفت امريكا سلالة من أبطالها الجدد من ذوي الأوسمة والشارات القرمزية وهم مجرد أفاقين أو مرضى نفسيين تخيلوا بطولات عبر الانترنت لا صلة لها بالأرض وحتى جاذبيتها ، وثمة الآن خمسون بطلا وهميا في الولايات المتحدة ، منهم من زعم بأنه اجترح معجزات مع المارينز ومنهم من خدع الناس بعض الوقت لكنه لم يستطع ذلك حتى النهاية،
ان أبطال الحروب الذين يتحولون الى علامات فارقة بها السرديات الوطنية لبلدانهم هم بالدرجة الاولى أناس دافعوا عن أرضهم وشعبهم وتاريخهم ، وبالتالي عن متاحفهم ومقدساتهم ، لهذا استحقوا الترميز الوطني والخلود في الذاكرة القومية لشعوبهم..
وقدم لنا الاعلام الامريكي مؤخرا أبطالا من ورق ، منهم من نال أوسمة عن دوره في العراق الذي لم تطأه قدماه أو في افغانستان التي لا يفرق بينها وبين أي سكان في هذا العالم ، أما كيف استطاع هؤلاء ان يخدعوا امبراطورية بكل ما تعج به من جنرالات وميديا ومخابرات فذلك سؤال سوف يبقى بلا اجابة شافية لمدة طويلة ، لأن ما قدم من اجابات حتى الآن هو مجرد كلام بلا مضمون ، والحقيقة ان هذا التزوير في مفهوم البطولة له صلة عضوية بحرب قامت على التزوير سواء من حيث المزاعم التي ثبت بطلانها حول وجود اسلحة دمار شامل في العراق أو من حيث تبشيرها بالديمقراطية ، وهي الحليف الأعظم لنظم يعتبر بعضها امثولات في الديكتاتورية والطغيان.. ان البطل لا يولد من حكاية خرافية أو من حرب لا تزال بعد أعوام من انتهائها تبحث عن شرعية بأثر رجعي ، لأن اقتران البطولة الأبدي هو بالمقاومة وحق الانسان المشروع في الدفاع عن أرضه وحقوقه أمام أي غزو ، لهذا فان من وصفهم هانتجتون بأنهم ماهرون في ابتكار الأعداء أصبحوا أكثر مهارة في ابتكار الابطال ، لكنهم أبطال وهميون ، يموتون خارج الانترنت كما تموت الأسماك خارج الماء.
هذا الدونكيشوت الانجلو ساكسوني يختلف عن بطل رواية سرفاتيس الاسباني ، لأنه لم يكسر سيوفه فقط على طواحين الهواء بل على عظم ساعديه وساقيه ، وحين عادت آلاف التوابيت الى امريكا من رحلة الموت المجانية وغامضة الاهداف لم يكن هناك أبطال ينفخ لهم بالأبواق ، خصوصا عندما تظاهر آباء وأمهات ثواكل متسائلين لماذا قتل ابناؤهم في حروب لا تخصهم؟،
واذا كان لكل حرب من حروب التاريخ أبطالها وشواهد أضرحة شهدائها ، فان أبطال هذه الحرب هم كما تصفهم امريكا ذاتها مجرد أفاقين لم يغادروا الارصفة التي يعيشون عليها، (الدستور)