الوضوح السياسي ونزاهة الانتخابات

بعد عام ونيف تمر الذكرى الستون للدستور الأردني، أعرق دساتير المنطقة وأكثرها تجسيدا لفكرة الدولة المعاصرة، وبعد أقل من مائة ساعة سوف يذهب الأردنيون الى صناديق الاقتراع لانتخاب مجلس نيابي جديد، فيما يختصر الرأسمال السياسي والاجتماعي الذي تملكه الدولة والمجتمع معا من اجل استعادة هذه المؤسسة لمكانتها وهيبتها التي اهتزت كثيرا خلال الاعوام الماضية، بمبدأ وقيمة واحدة تتجسد بنزاهة الانتخابات فعلا وقولا وممارسة واقتراعا.
رئيس الوزراء سمير الرفاعي في لقائه مع مجموعة من الكتاب يوم الخميس الماضي كان واضحا ومتماسكا في تأكيده وإصراره على ان الدولة ضامنة لنزاهة الانتخابات، وان الحكومة لن تتدخل بأي شكل من الاشكال في تحديد ملامح المجلس المقبل، بل ستمارس الصلاحيات وتستخدم القوة التي منحت لها بموجب القانون لحماية النزاهة، فيما تبدو الرسالة الأخرى ان نزاهة الانتخابات المقبلة مصلحة حكومية من المنظور السياسي الصرف، ما قد يؤهل الرئيس لانتزاع شرعية الاستمرار أو إعادة تشكيل الحكومة مرة أخرى.
لم تتعرض الاجراءات الحكومية في مرحلة الاعداد للانتخابات لأي انتقادات ذات وزن، بل ان معظم المراقبين ومن مختلف الاتجاهات ثمنوا للحكومة سلامة الاجراءات والممارسات القانونية التي سبقت يوم الاقتراع، ورغم الحملات الواسعة التي مارستها الحكومة للتشجيع على المشاركة الانتخابية مقابل دعوات المقاطعة، ومع الاعتراف بأجواء الإحباط التي اوجدها المجلس السابق، يذهب رئيس الوزراء الى بؤرة الوضوح السياسي "لن تتم التضحية بالنزاهة في سبيل المشاركة"، مؤكدا ان المجلس سيكون ممثلا للاردنيين ولن يقلل من شرعيته أن تأتي نسبة المشاركة أقل من السنوات السابقة.
الوضوح السياسي في اللحظات الفارقة في تاريخ المجتمعات والدول يتجسد حينما تصل المؤسسات الدستورية الى لحظة تدرك فيها تطابق مصالحها كمؤسسات ونخب مع مصالح الدولة والمجتمع، ولم يترجم ذلك اردنيا عبر أجيال من الحكومات وسط أزمات التحديث السياسي والاقتصادي وتناقضاتها، وفيما تآكلت مؤسسات وضرب بأخرى بعرض الحائط بقيت السلطة التنفيذية الوحيدة القادرة على التقدم لاحتواء الازمات بالمزيد من الإصلاح أو بالتغول على السلطات والمؤسسات الاخرى وتفريغها من مضمونها. واذا كان المسار الاخير الاكثر حظا، فإن الحكومة الحالية امامها فرصة لاستعادة زمام المبادرة في إعادة تماسك المؤسسات الدستورية ووضعها على الطريق لاستعادة مكانتها وهيبتها.
حينما اتخذ الملك قراره بحل مجلس النواب السابق كان يمارس حقه الدستوري في حماية مؤسسة دستورية أخذت تتآكل وتفقد مكانتها وشرعية تمثيلها، في هذه المرة لا مكان لاي مناورة سياسية على حساب نزاهة الانتخابات مهما كان الثمن وتحت اي عنوان، فالمؤسسات الدستورية في تجارب الديمقراطيات العريقة قادرة على تصحيح بعضها بعضا، وبالقدر الذي تحتاج فيه الحكومة ترجمة الوضوح السياسي في ملف نزاهة الانتخابات الى ممارسة فعلية يوم الاقتراع، فانها مدعوة الى ممارسة وضوح سياسي في الخطاب والممارسة في حماية المؤسسات الدستورية وتأكيد مكانتها وادوارها، ومدعوة الى ممارسة الوضوح السياسي في تعويض ما قد يشوب المجلس المقبل من ضعف في تكوين النخب، وذلك من خلال منظور جديد لاستعادة كفاءة الدولة. (الغد)