العشيرة والسياسة: الهدم والبناء الداخلي

تمنحنا الانتخابات النيابية الحالية فرصة مواتية لمراقبة ورصد بعض التحولات في سلوك العشيرة السياسي، الانطباع الأولي يذهب نحو عدم توقع أي جديد في نتائج الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها غدا من زاوية سلوك العشيرة الانتخابي وقوة تأثيرها، ما دامت الآليات التقليدية هي المسيطرة على البنى الاجتماعية في السياسة المحلية، وعدم ظهور تغيرات جوهرية تنعكس على خيارات الناس وخبراتهم.
لكن السؤال الذي تتطلب الإجابة عنه مراقبة حذرة يدور حول مدى امتلاك البنى الاجتماعية التقليدية ذاتها المتمثلة في العشائر دينامية ذاتية في التغير، في آليات عملها وفي النخب التي تصعدها وفي حدود أدوارها، وفي اختبار لغة جديدة في مضمون الخطاب، إذا ما علمنا أن خبرات السياسة المحلية في المجتمعات المحلية الأردنية نامية وغير جامدة.
في الملامح الأولية يمكن أن نرصد الاستمرارية والتغير في أدوار العشيرة في السياسة المحلية، كما يبدو في سلوكها الكثيف خلال الأسابيع الماضية بمجموعة من المظاهر أهمها:
- استمرار العشيرة كأداة للتصعيد الانتخابي في المجتمعات المحلية المتجانسة في المحافظات تحديدا، ولم تغب العشيرة أيضا عن المجتمعات غير المتجانسة في العاصمة والمدن الكبيرة، والجديد أن هذا التراكم النامي يوفر لنا أداة أصبحت واضحة الملامح للتحليل والفهم وتوقع السلوك المستقبلي في السياسة المحلية.
- أن العشيرة كوحدة تحليل للسياسة المحلية كما يبدو في موسم الانتخابات الحالية ليست ثابتة أو أيقونة جامدة، بل متغيرة وقادرة على التكيف وعلى إبداع وسائلها للانسجام مع التحولات المحيطة بها.
- الديناميات الداخلية في العشيرة والقدرة على التكيف وصلت في قمة تجليها إلى لبس ثوب الممارسة الديمقراطية هي الأخرى، والذي تمثل هذه المرة في صناديق العشائر، أي الانتخابات الداخلية داخل العشيرة الواحدة، وهي ظاهرة وجدت في السابق، ولكن ليس بالحجم الذي حدث هذه المرة، والذي يحتاج إلى رصد ومتابعة علمية.
- فيما سبق يوم الاقتراع بقي العنف العشائري المرتبط بالانتخابات أقل من المتوقع وفي حدود المعدلات الطبيعية، بل أظهرت العشيرة أنها أكثر تسامحا هذه المرة في المواقف الانتخابية من المرات السابقة، فيما ترتبط حالات العنف التي سجلت في أكثر من موقع بأسباب خارج دائرة الانتخابات، وترجعنا إلى المربع الأول الخاص بالعنف الاجتماعي وبجذوره المرتبطة بالاختلالات الاقتصادية والاجتماعية.
- على الرغم من الحضور الطاغي للعشيرة في المجتمعات المحلية في التصعيد وبناء التحالفات، إلا أنها بدت هذه المرة أقل مبالاة من دورات انتخابية سابقة؛ حيث تراجع القلق العشائري، الأمر الذي عكسته الرغبة في التفاهمات كما برزت في ظاهرة الإجماعات العشائرية، ولعل من الملاحظ أن الدورة الانتخابية الراهنة قد سجلت أكبر عدد من حالات الإجماع العشائري في تاريخ الانتخابات على مدى العقدين، ما جسد عملية الإجماع كأبرز ملامح السلوك العشائري في هذه الانتخابات.
للأسف لم ننشغل بدراسة وتحليل أدوار العشائر في التنمية السياسية بشكل علمي (باستثناء مشروع مركز الدراسات الاستراتيجية)، بالقدر الذي انشغلنا فيه بذم هذه القوى الاجتماعية التقليدية، وتعليق كل خيبات الإصلاح وتعثر جهود التنمية السياسية عليها، ولم يتم الالتفات إلى إمكانية وجود آليات داخلية قد توجه التغير الاجتماعي والثقافي من داخل هذه البنى التقليدية نحو أطر مدنية تدريجية، أي آلية الهدم والبناء الداخلي، ربما اعتقدت النخب الأردنية الناشطة أن الاكتفاء برفض هذه البنى، وإحالة ضعف التمثيل السياسي إليها أسهل من تغيرها من الداخل، في حين أن تلك النخب حينما يجدّ الجد تلجأ إليها.
تعـد دراسـات المجتمعـات السياسيـة المحليـة الصغيـرة مـن الدراسات الحديثة التي يتكامل فيها أكثر من أداة منهجية وأكثر من إطار نظري، وإذ يشير مفهوم النسق السياسي المحلي إلى التنظيم الاجتماعي وعمليات الضبط وترتيب استخدام القوة وتوزيع الأدوار وإضفاء المكانة، فإننا نجد أكثر من حقل معرفي وعلمي يُعنى بدراسة هذه الوقائع.
وترتبط دراسة الانتخابات والمشاركة السياسية بالمنظور الأنثروبولوجي في عدة محاور؛ لعل أهمها محور التنظيم والضبط الاجتماعي، ومحور تطور الوعي الاجتماعي في بيئته المحلية، والتعرف إلى السلوك الجمعي والقيم وأدوات الضبط الاجتماعية والثقافية، والتطور النظمي والإداري والخدمات والأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، وانعكاس كل ذلك في الانتخابات والمشاركة السياسية، باعتباره ساحة لفحص الوقائع الاجتماعية بأنماطها السياسية؛ كيفما تعبر عنها الجماعات والأفراد.
إن التغير في دور العشيرة في السياسة المحلية في المجتمع الأردني هو نتيجة تلقائية لمحصلة التغيرات الواسعة في الجوانب الثقافية والاجتماعية، حيث تعرض دور العشيرة إلى تراجع كبير في بعض المظاهر، إلا أن مكانة العشيرة ما تزال قائمة وبقوة (وإنْ بدأت بالتراجع البطيء)، ويبدو ذلك في التعبير عن انتماء الأفراد للعشيرة في الحياة اليومية، إذ لم تعد الجماعات القرابية الواسعة (أي العشائر) هي المؤشر الأساسي في ضبط وإحكام الأفراد في حياتهم اليومية، بل أصبحت المصالح هي المؤشر الأول لعلاقات الأفراد وانتماءاتهم، وعلى الرغم مما قد يبدو في تراجع دور العشيرة في الحياة اليومية، إلا أنها أي العشيرة ما تزال تملك قوة الضبط في جمع أفرادها تحت موقف واحد في مواقف التعبير السياسي العلني العام؛ مثل الانتخابات البرلمانية أو البلدية، وإن تعارض ذلك مع قناعات الأفراد وممارساتهم الفعلية.
أحد المظاهر المهمة في هذه الانتخابات انتشار ظاهرة الاحتكام لصندوق العشيرة، وهذا الصندوق موجود في دورات انتخابية سابقة، لكنه هذه المرة أخذ في الانتشار بشكل واسع، وعلى الرغم من كون هذه الآلية قد تعني تقيد حريات الأفراد وخياراتهم بما تملكه العشيرة من قوة ضبط اجتماعي، إلا أنه يمكن النظر إليها من زاوية القدرة على تطوير آليات محلية للعمل الديمقراطي المقيد، ما يلفت الانتباه في هذه المفارقة هو قدرة العشائر العالية على التنظيم وضمان النزاهة في صندوق العشيرة، وبشكل صارم؛ وهي القدرة التي تفوق نزاهة الحكومات ولجان المراقبين المحليين والدوليين، هناك صندوق آخر غير الذي تدلى به الأصوات، تدلى فيه بطاقات الأحوال المدنية لحين الانتهاء من التصويت؛ كي لا يتم التصويت أكثر من مرة أو تتعرض البطاقة للكي أو التبديل على الطريقة المعروفة.
يمكن ملاحظة أنماط من تحالفات المصلحة تنمو بالتدريج وبشكل علني فوق اعتبارات الدم والقرابة، وهذا يعني أيضا أن يرتقي الأفراد في وعيهم لكي يتجاوزوا الانتماء التقليدي للعشيرة أو القبيلة، ولعل النقاشات اليومية لدى فئات الشباب والشابات والمتعلمين تشير إلى مظاهر أزمة التغيير والتحول في الولاء من إطار العشيرة إلى إطار المدينة أو المنطقة أو الجهة، واستمرار غموض أولوية الوطن. (الغد)