أحلام اللحظة الراهنة

غاب عن الدعاية الانتخابية التي استمرت شهرا وعن شاشات التلفزة المحلية التي امتلأت بصور المرشحين وعدد الحضور في مقراتهم أي حديث برامجي أو حتى سياسي، فمعركة الصور والفوتوشوب كانت الأكثر وضوحا، ولم نسمع أو نر من مرشحي البرلمان أي مناظرات في الاقتصاد أو السياسة، حتى الذين انطووا تحت عباءة حزبية فاتهم هذا الشكل والمضمون في الحملات الدعاية.
كنت أمني النفس بمناظرة على الملأ يتناول فيها مرشح أو مرشحون تشوه أوضاع العمالة المحلية وأسباب ضعفها والمسارات التشريعية المقترحة لرفع سويتها والسبل الكفيلة بتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية لا سيما العربية التي تسيطر حاليا على مشهد حياة الأردنيين من ألفه إلى يائه، ولا تبدأ تلك السيطرة من عجن رغيف الخبز ولا تنتهي أمام نظافة بيوتنا ومدننا وسياراتنا.
مناظرة أخرى ظلت تدور في الأذهان حيال سوء توزيع الثروة والدخل في البلاد، ومدى تأثير ذلك على تآكل الطبقة الوسطى، والأسباب التي تقف وراء امتلاك 30 % من الأردنيين لنحو 60 % من إجمالي الدخل، بينما يمتلك أفقر 30 % من السكان أقل من 11 % من الدخل، وكان من الممكن لتلك المناظرة أن تبحث في غياب آليات تحقيق المساواة رغم أن المملكة حققت معدلات نمو اقتصادي جيدة في السنوات الخمس الماضية وبنسبة تفوق 6 %، أليست الطبقة الوسطى في أي دولة مادة دسمة للحديث السياسي والاقتصادي في الموسم الانتخابي؟ فلماذا غابت المناظرات وغاب الحديث بعمق عن تلك الطبقة التي خبا دورها؟
وبدل توزيع صحون الكنافة في المقرات الانتخابية على امتداد شهر كامل، كان حريا بمن يتصدرون لمهمة الرقابة والتشريع أن يناقشوا في ندوات تفاعلية مع ناخبيهم ارتفاع عدد جيوب الفقر إلى 32 جيبا، وكان لزاما عليهم أن يدرسوا تلبية خط الفقر العام الشهري لحاجات المواطنين الأساسية، فهل يكفي المواطن فعلا مبلغ 56 دينارا للطعام والشراب وأجور النقل والتعليم وغيرها؟ وكيف يرى المرشحون ومنهم من سيصبح نائبا يوم غد مستوى خط الفقر العام بمعدل 680 دينارا سنويا؟ فهل ينطوي خط الفقر العام بحجمه الحالي على العدالة أم أن هذا الرقم ليس عادلا أو غير دقيق لا يتوافق مع الحالة الأردنية، وماذا عن أجور السكن وباقي أشكال الإنفاق التي لا يطاولها مبلغ 56 دينارا شهريا، لا سيما وأن عمان من أغلى المدن العربية.
وبما أن مشروع قانون ضريبة الدخل وجدل الإعفاءات والضريبة التصاعدية وما رافق هذا المشروع من اختلافات شهدها البرلمان المنحل، فإن التوقعات كانت تقود إلى أن تشهد صالونات الانتخابات وحملاتهما جدلا أوسع تجاه هذا القانون الذي يمس كل شرائح المجتمع وقطاعاته الاقتصادية، لكن المرشحين نأوا بأنفسهم عن الخوض في هذا الجدل خلال حملتهم الانتخابية، وأغلب الظن أن النواب لاحقا سيجدون أن من الترف إعادة البحث في السياسة الضريبية من زاوية تشريعية.
غابت البرامج وغابت معها الأفكار الاقتصادية، وباعتقادي أن جمهور الناخبين سيلجأ إلى الهويات الفرعية والضيقة في التصويت على حساب المصلحة الاقتصادية الأوسع، وسيكون من الصعب على "النخب" التي سيفرزها هكذا اقتراع أن تفتح ملفات السياستين النقدية والمالية أو أن تقدم حلولا لإشكاليات عجزي الموازنة والميزان التجاري وربط الدينار بالدولار وغيرها من ملفات الاقتصاد الثقيلة.
كل المناظرات الآنفة التي لم تعقد والعصف الذهني المأمول ذهب أدراج الرياح لصالح حملات صور الفوتوشوب التي تسببت في "عمى ألوان" لرجل الشارع الأردني، فلقد بدا الأردن ساحة مفتوحة للأثرياء الجدد والمال الانتخابي الذي استباح المشهد برمته، وتلاشت مع هذه الصورة المخادعة حقائق اتساع الفقر وشح المياه وانعدام مصادر الطاقة، وأهم من كل ما سبق حاجة الأردنيين إلى نخب جديدة تكون سببا في حل الأوضاع الاقتصادية لا عاملا يكرس من رداءة اللحظة الراهنة. (الغد)