حمى الكتابة الجديدة

تتكاتف بعض الأجيال الأدبية الجديدة ، في بعض المفاصل التاريخية ، لتحدث ما يُشبه القرقعة ، التي تتوخى إحداث الضجة الكفيلة بلفت الانتباه ، كي تقول: "إننا هنا". وأنا ما زلت أذكر كيف كانت بعض الجماعات الشبابية الأدبية ، في الوطن العربي ، في سبعينيات ، وثمانينيات ، وحتى تسعينيات القرن الفارط ، تعلن تشكيل جماعات أدبية جديدة ، تحمل أسماء جديدة. وما زلت أذكر كيف أن مثل أفراد هذه الجماعات ، حينما يبدؤون بأخذ حقهم في النشر ، والتواجد في الساحات الثقافية العربية ، سرعان ما يتفككون ، وينسحبون من مسمى جماعتهم الأدبية ، ليصير كل واحد منهم ينطق باسمه المفرد.
من هنا يمكن القول إن الضجة في التجمع ، وإطلاق البيان لهذه الجماعة ، أو تلك ، ما هو إلا محاولة للظهور على السطح الأدبي السائد ، ومحاولة لاحتلال مساحة قادرة على جلب النظر ، والدخول إلى مساحة النشر ، والحضور في الساحة الأدبية ، بسطوة إعلان ميلاد الحماعة الأدبية ، وبسطوة الإعلان الأول.
وتتكثف ، هذه الأيام ، في الساحة الأردنية ، دعوة إلى الالتفات إلى ما تمت تسميته بـ"الكتابة الجديدة" ، وقد حدث هذا التكثيف في التوجه بعد أن نشرت مجلة الآداب البيروتية ملفاً خاصاً عن الأدب الجديد في الأردن ، ضم كتابات قصصية وشعرية لأسماء لم يأخذ أصحابها حقهم في الحضور في الساحة الثقافية الأردنية ، ولم يأخذوا حق النشر في الصحافة الثقافية الأردنية ، كما ينبغي لهم أن يأخذوا.
ومن يتابع ما كتب حول ظاهرة الكتّاب الجدد ، في الأردن ، يشتم رائحة إدانة لبعض الأسماء المكرسة إبداعياً ، في الساحة الثقافية الأردنية ، فضلاً عن تلك التقريعات الخافتة في إدانة هذه الهيمنة التي لا تلتفت إلى مثل هكذا تجارب جديدة ومبشرة.
لكن من قال إن الكتابة تحتمل ، في مسماها الإبداعي ، منطق الجديد والعتيق؟ وكيف بمكن لنا أن نحكم على الكتابة التي يفترض أنْ تظل بهية وساطعة ، وليست خاضعة لفكرة انتهاء الصلاحية؟ وكيف يمكن لنا أن نعتبر - على سبيل المثال - كتابات درويش وأدونيس والماغوط والسياب كتابات تخضع لمسمى الأدب القديم ، وتعتقل داخل هذا المسمى ، بينما تأخذ الكتابات المضارعة لمرحلتنا التي نعيشها مسمى الجدة والحداثة؟.
ان مصطلح الكتابة الجديدة ، الذي أخذت تتاجر به بعض الأسماء الكتابية الأردنية ، هو مصطلح يحتمل الشبهة في التسمية ، ويتستر على توجه انقضاضي على مسألة النشر ، ومحاربة النقاد سلفاً ، وتوعدهم بعدم الاقتراب من هذا الأدب الجديد ، ومقارعته.
وإذا عدنا إلى التاريخ الكتابي العربي ، وحتى الغربي ، سنجد أن النقلات الحداثية ، في تقنية الكتابة الإبداعية ، لم تقم على مبدأ الفزعة ، بل قامت استجابة لتطور كبير عاشته المجتمعات العربية والغربية ، بحيث استحقت الكتابة الناهضة ، حديثاً ، بتقنيتها الكتابية الجديدة ، وبمضامينها الكتابية الجديدة ، أيضاً ، من وسط هذه التطورات ، مسمى الحداثة والجدة.
أما أن تتحول ما اصطلح على تسميتها بالكتابة الجديدة إلى ما يشبه حالة الحمى ، التي تلهج بالنطق الكتابي الاعتباطي ، كي تأخذ حقها في أن تشكل ظاهرة تستحق الالتفات إليها وتبنيها ، فهذا هو النهج الذي لن تعتمده ساحتنا الأدبية. لا لشيء سوى أنّ الكتابة الجديدة ، التي تحمل بشارة الإبداع الجديد ، لا تحتمل صيغة الجمع العصبوي هذا ، بل هي الكتابة المفردة التي تظهر بصيغة الجمع ، وتؤكد حضورها بانسيابية جدول الماء ، وبراءته. (الدستور)