العفو والمقدرة

كثيرة هي الآثار والدلائل في أدب التراث العربي التي تحضّ على العفو ، وتعتبره من مكارم الأخلاق. وهي قيم أقرّها الإسلام وعزّزها في حياة الناس الإجتماعية واليومية ، فما أحوجنا اليوم الى تذكر تلك القيم ، مواطنين ومسؤولين ، خصوصاً حين يكون أحدنا قادراً على الصفح والغفران والعفو.
فقد ذكر أن الرشيد قال لأعرابي: بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة؟ قال: بحلمه عن سفيهنا وعفوه عن مسيئنا وحمله عن ضعيفنا. لا منان إذا وهب ولا حقود إذا غضب. رحب الجنان سمح البنان ماضي اللسان. قال فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه ، وقال والله لو كانت هذه في هذا الكلب لاستحق بها السؤدد.
وقيل لمعن بن زائدة المؤاخذة بالذنب من السؤدد ، قال لا ولكن أحسن ما يكون الصفح عمن عظم جرمه وقلّ شفعاؤه ولم يجد ناصرا. وقال الشاعر محمود الوراق:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ...
وإن عظمت منه علي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة ...
شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فاعرف قدره ...
وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فان قال صنت عن ...
إجابته نفسي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فان زل أو هفا ...
تفضلت إن الحر بالفضل حاكم
وقال الأحنف بن قيس لابنه: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فاغضبه ، فإن أنصفك وإلا فاحذره. وتذكر قول الشاعر:
إذا كنت مختصا لنفسك صاحبا ...
فمن قبل أن تلقاه بالود أغضبه
فان كان في حال القطيعة منصفا ... وإلا فقد جربته فتجنبه
ُومن أمثال العرب: إحلم تسد ، وقال شاعرهم:: لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا ... حتى يدلوا وإن عزوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل ولكن صفح اكرامنج
وحُكي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه أن غلاما له وقف يصب الماء على يديه ، فوقع الابريق من يد الغلام في الطست فطار الرشاش في وجهه ، فنظر جعفر إليه نظر مغضب ، فقال يا مولاي" والكاظمين" الغيظ قال قد كظمت غيظي ، قال "والعافين" عن الناس قال لقد عفوت عنك ، قال والله يحب المحسنين قال إذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.. وقيل: لماقدم نصر بن منيع بين يدي الخليفة وكان قد أمر بضرب عنقه قال يا أمير المؤمنين: اسمع مني كلمات أقولها ، قال قل فأنشأ يقول::
زعموا بأن الصقر صادف مرة ... عصفور بر ساقه التقدير ُفتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقض عليه يطير إني لمثلك لا أتمم لقمة ... ولئن شويت فإنني لحقير ُ فتهاون الصقر المدل بصيده ... كرما وأفلت ذلك العصفور قال فعفا عنه وخلى سبيله. وقد قال قال الشاعر في هذا::
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزهم ... عنه فإن جحود الذنب ذنبان
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى سكران فأراد أن يأخذه ليعزره ، فشتمه السكران فرجع عنه ، فقيل له يا أمير المؤمنين لًمَ شتمك وتركته..، قال إنما تركته لأنه أغضبني فلو عزرته لكنت انتصرت لنفسي ، فلا أحب أن أضرب مسلما لحمية نفسي..
وغضب المنصور على رجل من الكتاب فأمر بضرب عنقه فأنشأ يقولمم وإنا الكاتبونا وإن أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا ُفعفا عنه وخلى سبيله وأكرمه..وقال آخرتح وجهل رددناه بفضل حلومنا ... ولو أننا شئنا رددناه بالجهل
وقال الأحنف: إياكم ورأي الأوغاد. قالوا وما رأي الأوغاد..؟ قال الذين يرون الصفح والعفو عارا. وقال رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لأسبنك سبا يدخل معك قبرك. فقال معك والله يدخل لا معي. وقيل إن الأحنف سبه رجل وهو يماشيه في الطريق ، فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال له يا هذا إن كان قد بقي معك شيء فهات وقله ههنا فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك ، ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا . وقال لقمان لابنه: يا بني ثلاثة لا يُعرفون إلا عند ثلاثة: لا يُعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحرب ولا أخوك إلا عند الحاجة إليه ..وتفتخر العرب بأنّ مًن أشعر شعرها قيل في الحلم ، وهو قول كعب بن زهير:: إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل .ُ (الدستور)