خاطرة الأب الثاني

اعتدنا ان نكرر عبارة بروتوكولية في عالمنا العربي هي الترحيب بالضيف في بلده الثاني رغم انه ليس متأكدا بأن له وطنا سواء كان الأول أو العاشر ، فالمواطنة في هذه الجغرافيا الجريحة لا تزال في طور العذراء ، وتلك بالطبع دراما يطول الكلام فيها ، المهم ان عبارة الاب الثاني نادرا ما ترد على ألسنتنا ، ولا يطلق هذا اللقب حتى على زوج الام ، لأن المثل يقول "من يتزوج أمي أناديه يا عمي". ما لفت انتباهي في حديث متلفز مع ابنة جيفارا هو تسميتها لكاسترو بالأب الثاني لها ، وهذا اعظم تقدير يمكن ان يقدمه انسان لآخر.
والحقيقة انه ما من مثقف أو ناشط حقيقي الا وله أب آخر ، لا علاقة له بأمه بالطبع ، لكنه الشخص الذي اضاء له الطريق ودله على المنابع ، وحين كتب سلامة موسى ذات يوم كتابا بعنوان هؤلاء علموني كان يعترف بآباء غير أبيه ، منهم الفيلسوف والحكيم والشاعر والمصلح ، لكن الزمن الأغبر الذي تورطنا به دمر عدة منظومات دفعة واحدة منها منظومة المفاهيم ومنظومة القيم ، وحين يتحدث المثقفون العرب نادرا ما يذكرون الاب الثاني لأنهم أساسا قتلوا الأب الاول في قبره ، أو حاولوا اختراعه مجددا بما يليق بأوضاعهم.
ثمة فارق كبير وحاسم بين اللقيط والعصامي ، فالعصامي لا يدعي بأنه نبت شيطاني ولا بد ان يكون له آباء دلوه على أول الطريق سواء كانوا من معلميه أو اصدقائه أو أقاربه ، لكن اللقيط هو من يزعم بأنه ولد بشارب ولحية وبكامل اللغة ، فلا يعترف ولا تمر بذاكرته أدبيات العرفان وثقافته ، لأنه يتصور بأن ذكر أي شخص اعانه يحرمه من مكانته أو يشكك في عبقريته اللقيطة.
ابنة جيفارا لم تبالغ بأية عواطف رغم ان لديها من المصداقية ما يكفي لأن تكذب باسم ابيها الف عام ، ذلك ببساطة لأنها تدرك بأن التاريخ لا يصنعه الأبطال وحدهم او الزعماء حتى لو كانوا من اصحاب الكاريزما الجاذبة ، ولا بد انها تعرف بأن أباها الذي كان مصابا بالربو لم يغادر السيجار الكوبي شفتيه ولم يعقه المرض عن حمل صندوق حديدي ثقيل مليء بالمعدات الطبية وهو يخوض في المستنقعات.
ان الناس الذين جربوا وحملوا عبء اسماء آبائهم قلما يكذبون او يخترعون القصص الاسطورية لأنهم ليسوا بحاجة الى ذلك ، ومن يفعل هذا هو الذي يحاول التعويض عما ينقصه ، وحسب امثالنا العربية وموروثنا الاخلاقي فان هناك من شابه أباه وما ظلم مقابل من حاول التشبه بأبيه زورا فكذب مرتين وبالتالي ظلم،
ان من ليس له اب اول ينتمي الى صلبه لن يكون له أب ثان ، أو ثالث ، بل سيكون له زوج أم أو عم وفي عالمي السياسة والثقافة ثمة نماذج لا تحصى من هؤلاء ، وقد يكون بعض الناس ومنهم السيدة ابنة جيفارا محظوظين بآبائهم بالولادة ، لكن هؤلاء ليسوا سواسية في استخدام هذا الحظر ، فالنار كما يقال تخلف رمادا في بعض الاحيان ، والفارق سيبقى حتى القيامة بين الابن والوريث ، فالابن سر أبيه بشكل أو بآخر ، لكن الوريث طراز آخر من الابناء ، انها مناسبة لكي يتذكر الانسان أباه الثاني شرط أن يكون ابنا جديرا يليق بأبيه الاول،، (الدستور)