الخميرة الاجتماعية

التحول الديمقراطي في العالم العربي لا يبشر بأي حال بخير، وثمة مقولة آخذة بالتعمق تذهب إلى أن مصدر الإعاقة الحقيقي– على وصفهم- للتحولات السياسية السلمية والناعمة هذه المرة ليس السلطة التقليدية ولا التدخلات الخارجية بل البنية الاجتماعية والثقافية المحلية.
في العمق وخلف نذر الصدامات والحروب الأهلية تتفاعل أزمة طاحنة تعبر عن فجوات عميقة في الانتماءات وعدم نضوج الخيارات الاجتماعية والثقافية قبل السياسية، ما يكشف زيف إنجازات الدولة الوطنية في العالم العربي وعدم نضوجها على الرغم من أن معدل عمر هذه الدولة في العديد من بلدان العالم العربي قد تجاوز نصف قرن وأكثر، وبالفعل حصلت الدولة الوطنية العربية على اعتراف الجميع في العالم بها إلا اعتراف مواطنيها، هل يعني هذا أن ندير دفة النقاش إلى الإصلاح الاجتماعي والثقافي بدلا من عراك مع الإصلاح السياسي لم يحقق أي نتيجة على الأرض، ثم ما العلاقة بين الملفين ومن منهما يملك مفاتيح الآخر؟.
عمق الانتماءات الأولية الاجتماعية والسياسية والدينية يتجاوز الدولة في تعبيراتها وسلوكها والمتمثلة في فقر المواطنة وتشتت مستوياتها، وكما تعبر هذه الأزمة الكبرى عن هزيمة مشاريع الاندماج الاجتماعي والتكامل السياسي التي ادعت الأنظمة السياسية الانشغال في تدشينها على مدى العقود الماضية، فإن العديد من الأنظمة توظف هذه الأزمة لتجديد شرعيتها المتهاوية والمستهلكة وتستثمرها لتعطيل نوايا الإصلاح والتغيير.
قد يقول قائل: إن جذور الأزمة تكمن في صنائع الأنظمة السياسية وفشلها التنموي والسياسي والاستراتيجي، ويجب أن تكون هذه الأزمة أداة للإصلاح والتغيير أكثر من كونها أداة تستثمرها الأنظمة لاستمرارها وتبرير سطوتها الأمنية، وبالفعل هذا تحليل وجيه ونجد جذوره العلمية في فكرة فجوة اللااستقرار التي تحدث عنها العديد من الباحثين منذ عقد الستينيات من القرن الماضي، وارتبطت بنظرية التحديث، وهي فجوة تظهر في الفترة الفاصلة بين حالة الاستقرار التي يفرضها الاستبداد ومرحلة التحول نحو الديمقراطية، وفي المسار الطبيعي قد تتجه الأحداث نحو هذه النتيجة التي تعني مخاض استقرار القيم والانتماءات، وهو للأسف مسار لا يتجه إليه العالم العربي في هذا الوقت رغم حجم الفوضى والإرباك، نظراً لحجم تشابك القوى والمصالح المحلية والإقليمية والدولية الفاعلة فوق الساحات العربية، ورغم تناقضها الظاهر مع بعض الأنظمة السياسية إلا أنها لحظة تجسد التقاء المصالح بالتوافق على استمرار الأمر الواقع وإيهام المجتمعات بأن الخير كله باستمرار هذا الواقع.
في حين أنتجت المجتمعات ونخبها نصوصاً مشغولة بتسييس كل شيء، ومشغولة بتوالي تقديم الإجابات الأحادية والمغلقة وابتعدت عن طرح السؤال، ادعت الحداثة المغرقة بالرموز القابلة لتفسير الحياة والتاريخ والآخر والعاجزة عن تفسير العجز الاجتماعي -السياسي الراهن، فهي تملك القدرة على توريد الإجابات لكل ما يخطر في البال والقادرة على الرد على أزمات العالم ومعالجة فواجع التاريخ، أنها مجتمعات ونخب ونصوص في حالة طوارئ، لذا لديها إجابات دائمة لكل الأسئلة المطروحة، والمحتمل طرحها في المستقبل القريب والبعيد أيضاً، لكنها فقيرة أمام تفسير قوانين التخلف ودوام الفوات في هذا الثقب الأسود من العالم.
السياسة تحتل كل شيء في أفقر مجتمعات العالم قدرة على المشاركة أو التعبير السياسي، ووسط أكثر نظم العالم بعدا عن السياسة وإدارة المصالح، وفيما لا توجد خميرة اجتماعية فاعلة لن يقوى الناس على أكل خبز السياسة، وهذا ما يفسر جانبا من الغربة بين السياسة الفعلية والناس، وما يؤكد الحاجة لإعادة طرح السؤال الثقافي الاجتماعي باعتباره العمق الحقيقي لأسئلة الخبز والسياسة معا. (الغد)