ثلاثة وخمسون عيد أضحى!

عايشت حتى عيد الأضحى المبارك اليوم ، ثلاثة وخمسين عيد أضحى ، وفي كل عيد كنت أسمع ترويدة متكررة على لسان الناس: كل عام وأنتم بخير ، أو عيد بأي حال عدت يا عيد،
وقبلها وبعدها تتنزل شهب من القبل والمعانقات الغزيرة ، مصحوبة بأمنيات "الخير" و.. أعاده الله علينا وأمتنا ترفل في أثواب العز والسؤدد ، أو سوى ذلك من أمنيات وأدعية ، وأشهد أن أمنية واحدة من هذه الأماني الكثيرة لم تتحقق ، بل إن أثواب العز أصبحت مجرد أسمال أو ملابس بالية ، ملابس البالة أحلى منها وأكثر جدة ، وبعض البلدان العربية والإسلامية فقدت كل ملابسها ، ويا دوب تستر عورتها ورقة توت،.
المناسبة ليست مناسبة ندب وتحسر وبكاء على الأطلال ، بل مجرد تذكر أن ثمة عيدا مباركا عزيزا على قلوبنا جميعا ، يستدعي استدعاء كل ملفات الأعياد السابقة على رأسك ، ولا تكاد تتذكر منها كلها إلا مفارقة جارحة حد الفجيعة ، فالعيد أصلا مناسبة للشعور بالاحتفال ، ورؤية الأقارب والأهل واجتماع شمل الأسر ، لكن بالنسبة لي تحديدا ، ولربما ملايين غيري ، مناسبة لتفقد الغُياب ، كما يتفقد مربي الصف تلاميذه الغائبين ، منذ خمسين عيدا أو أكثر ، لم يلتئم شمل أسرتي تحديدا ، وفي كل عيد كانت الوالدة والوالد - يرحمهما الله - يحتفلان بالعيد بذرف الدموع ، الوالدة على ابنتها التي سافرت من طولكرم إلى عمان ولم تعد أبدا ، فقد ماتت ذات شتاء ، والوالد على شقيقه الذي فرقت بينهما النكبة ، فسافر إلى مصر ، وحين سافرتُ لرؤيته على أمل أن أجمع بين الشقيقين لم أجده ، فقد ترجل من هذه الدنيا ، وما لبث أن لحق به شقيقه ، فلم يجتمعا لا في عيد ولا في مأتم،.
هذا مجرد مقطع عرضي سريع وغير درامي بما يكفي للدلالة على تفرق الأسر العربية وتشتتها ، خاصة غربي النهر ، حيث يولد كثير من الأبناء في غيبة آبائهم ، فهم إما شهداء أو معتقلون ، وقل مثل ذلك عن عوائل وأسر شامية وعراقية وجزائرية ، ومصرية أيضا ، لأسباب شتى تتعلق بالنضال أو البحث عن الرغيف ، أو الفرار بالرقبة من سكين "الأضحية"،.
الأدهى والأمر ، أن هناك ماكينة نشطة تعيد إنتاج النكبة ، بطبعات عربية مزيدة ومنقحة ، فهناك طبعة جديدة من النكبة الفلسطينية الأولى أنتجت في العراق ، تضمنت تشتيتا للأسر ، وإنتاج المزيد من الأيتام ، والذكريات السوداء ، لاستدعائها للبكاء عليها في الأعياد والمناسبات الوطنية والقومية ، وهناك طبعة ثانية من النكبة الفلسطينية ، ولكن هذه المرة يشارك في صناعتها رفاق الدم والهم والغم ، وهناك طبعة جديدة وربما تكون موسوعة كاملة بصدد تنقيحها ومراجعتها قبل النشر في بيروت ، منارة العلم والفكر الحر النير ، والخشية أن تكون هناك مطابع سرية تستعد لإعادة طباعة نسخ أخرى من النكبة ، في أماكن سرية أو أقبية سوداء،.
ومع كل هذا ، كل عام وأنتم بخير ، فعيد الأضحى المبارك مناسبة تقهر الحزن ، وتستعلي على الجراح القومية والوطنية ، فثمة رغم كل هذا الغيم الذي يظللنا بقع ضوء تلمع ، تتكىء على إرادتنا العنيدة على اجتراح الفرح وصناعة الكبرياء ، ونبقى نحلم بًعيد قريب أو بَعيد نطالع فيه طبعة جديدة سالبة من النكبات والأزمات ، نتذكر فيها أحزاننا ونغرقها بسعادة تحل بنا ، ونحن نغرق في السخرية منها والضحك عليها بعد أن تصبح مجرد ذكريات؟ (الدستور)