ساونا سياسية!

قل ما تشاء ، واضرب الكف اليمنى باليسرى حتى يتفصد الدم من أصابعك ، واصرخ في البرية حتى يجف صوتك وتتقطع أوتاره شرط ان تكون عارفا منذ البدء ان ما تفعله قد يريحك ويخلصك من فائض الدمع والعرق في عروقك ، ولن تستعيد عراقك في المدى القومي المشهود.
المعادلة الكونية الآن بسيطة وليست عسيرة الفهم الا على من تضخم الخيال لديهم حتى تسرطن وهي قل ما تشاء ودعنا نفعل ما نريد ، فالمسافة بين الرغبة والقدرة لم تكن ذات يوم كما هي الآن ، لأن فلسفة العولمة أو فقه القطعنة حوَّل الكائن الآدمي الى سن بلاستيكية في مشط يحمله أصلع ، وما كان لهذا الانسان أن يتحول الى رهينة تجهل من اختطفها لولا انه أسلم أمره لاولي القهر منذ تمددوا بأساطيلهم واسطبلاتهم وعبروا القارات ليستوطنوا العقل أولا ثم يأتي بعد ذلك التراب.
ولو كان الانسان يتخيل ان كل ما يبدعه من تكنولوجيا سوف يستعبده ويحوله الى أقل من مكنسة كهربائية لمكث هناك ، تحت شجرة وارفة الظل أو على شاطىء نهر ، لكنه صدق ما قيل له ، وتوهم بأن يسود هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه ، لكنه اكتشف بعد فوات الاوان انه امتلك كل شيء وفقد نفسه ، ولم يعد قادرا حتى على الحلم ، لأن جنازير الواقع الفولاذية أقوى من ريش خياله الناعم ، ولأن اطالة السجان لعمر السجين من خلال منعه من الانتحار ومعالجته هي فقط من اجل ادامة تعذيبه لأن الموتى لا يتألمون.
ما يكتب الآن في مختلف القارات واللغات يصنف سياسيا على أنه خالي الدسم ويصلح لمزيد من الترشيق ، لكنه ليس ترشيق الجسد بل تضييق مساحة الوعي ، والعودة بالانسان الف عام الى الوراء ، كي يعود مادة صالحة للاستثمار وتجارة الرقيق الملون ، فما حدث في هذه الحقبة هو غسيل وعي ، وحالة عامة من العمى الوبائي تجعل الضرير لا يرى الا في داخله ، فلا يعرف ما اذا كان الواقف بجواره ابنه أم عدوه ، وما اذا كانت الشجرة التي يقف تحتها لشنقه بحيث يتدلى بدلا من العناقيد من اغصانها أو موسمه الموعود في الصيف الاعجف القادم،.
لقد شح الشهود ، وأوشكت الجرائم على الاكتمال ، بحيث تطوى ملفاتها كقبور ضحاياها الى القيامة ، لأن التثقيف السائد يبدأ من تجهيل الانسان بنفسه ، ومن تجهيله بكل ما حوله ، كي يصبح عدو نفسه ، وقد أصبح بالفعل عدوها وجلادها وهو آخر من يعلم،.
كانت الحرية في زمن أقل تقدما أقل التباسا مما هي الآن ، وكان الفاصل حاسما بين النقائض ، لكن ما يحدث الآن هو تزويج قسري لهذه المتناقضات بحيث تلد مسوخا يصعب التعرف على نوعها.
آخر ما حذف هو الفاصل بين الحرية والاستعباد وبين الاحتلال والاستقلال بحيث انعطبت البوصلات ، وتداخلت الجهات ولم يبق أمام هذه الرهنية الا ان تردد مع أبي الطيب.. على أي جانبيك تميل؟. (الدستور)