إمّا فيها .. أو عليها

في زحمة الشعارات الفضائية وحمّى السجال الصوتي العقيم ، تأتي هذه الكلمات على ألسنة من تشبثوا بجمر البقاء على قيد ترابهم فهم لم يرددوا ما قاله شمشون: عليّ وعلى اعدائي ، لانهم يعشقون الحياة اذا ما استطاعوا اليها سبيلا كما قال احد اعز او ابهى ابنائهم انهم فلسطينيو فلسطين وعرب العرب لا عرب اسرائيل كما سماهم المعجم الدّاجن في زمن الارتهان والتبعية.
إمّا فيها عظاما ورميما وجذور سنديان وزيتون او عليها قامات سامقة تزرع وتبني وتتعلم وتصلي وتضبط ساعاتها على ايقاعات الفصول رحم منذ ستين عاما كانوا مدرجين على قائمة التهجير والعبرنة والاسرلة بكل المفاهيم التي من شأنها ان تسطو على هوية تترجمها ، والعرب لم يقفوا معهم او حتى من خلفهم بقدر ما وقفوا هم مع العروبة والابجدية والانتساب ، فقبل عام 1967 كانوا منسيّين ثم فجأة اندلع الصهيل من كل صوب في تلك الجغرافيا الرسولية لهذا رد محمود درويش على فدوى طوقان قائلا:
نحن في حلّ من التذكار
فالكرمل فينا
وعلى اهدابنا عشب الجليل
لم يكونوا في تلك العشيّة الحزيرانية بحاجة لمن يذكّرهم بأنفسهم او حتى بنا: لأنهم تفرغوا منذ الهجران لحراسة التراب وما عليه من شجر ومساجد واطلال كل حجر فيها ممهور ببصمات اسلافهم الذين زرعوا ثم جاء من يسلب الزرع والضرع وحين عصر الرغيف المسروق من ايدي اطفالهم غرقت اصابعه بالدم.
رهان البقاء ليس مجرد رهان اقامة فالبقاء حرب وجودية ، المهزوم فيها بتاريخه وكل ما يملك غنيمة لهازمه وما من خيار ثالث في هذه المعارك الصعبة فإما البقاء حيث الجذور او الفناء والتلاشي في المنافي النائية وهذا هو بالضبط المرادف الدقيق لتلك العبارة وهي "إما فيها او عليها".
ومن في تلك الارض اضعاف من عليها لأن عشرات الاجيال كدحت وقضت وهي تدافع عن تاريخها وثقافتها وهويتها لكنّ من في الارض ليسوا نياما او مجرد موتى عاطلين عن الحياة ، إنهم يسهرون في قبورهم وينادمون جذور الاشجار العريقة ويدركون بانهم على موعد مع قيامة قوميّة ولو بعد الف عام.
لم يفقدوا الرجاء: لهذا حاصروا حصارهم وخرجوا لمن انتهك نخاع وطنهم موتا لموت وليس وجها لوجه او ظهرا لظهر ، وقد تعددت اسماؤهم في معاجم التدجين والتهريب وعولمة الذل لكنهم سخروا من هذه الاسماء ، لأنها قبعات مفصلة لرؤوس غير رؤوسهم واكتفوا بأن يقولوا: بانهم عرب فقط وان كانوا فلسطينيين جدا فكل عربي هو في العمق فلسطيني: لان هذه التسمية ليست جنسية او خانة في الاحوال المدنية ، ولو شعر عرب فلسطين بانهم مخلوعون من سياقهم القومي والايديولوجي لانتهى الأمر منذ زمن طويل ، لكنهم يشعرون رغم مرارة التخلي والخذلان بانهم رافد من روافد النهر الكبير ، وما يستحق التقدير والعرفان لهؤلاء هو عصاميّتهم الوطنية الفذّة: فقد عاشوا وتكاثروا بفضل فائض انتمائهم وليس بفضل شيء اخر...
لهذا فهم إما فيها او عليها،، (الدستور)