العرب السنة في العراق من العملية السياسية

منذ البداية ، لم نكن من المتفائلين بمشروع القائمة العراقية الذي وقفت خلفه دول عديدة في المنطقة كمحاولة لتحجيم النفوذ الإيراني في العراق ، وكمحاولة لإحداث حالة من التوازن السياسي في معادلاته الداخلية. وقد حدث ما توقعناه على صعيد تطورات ما بعد الانتخابات.
لم نتفاءل لأن الجزء الأساسي من تلك المعادلات قد استقر خلال سنوات ما بعد الاحتلال على نحو صار من الصعب تغييره من دون جهود جبارة ، ومن دون تدافع أهلي أكثر قوة وشراسة ، بل من دون معادلة عربية وإقليمية مختلفة ، والخلاصة أن سنوات ما بعد الاحتلال قد صنعت حقائق ليس من السهل تغييرها.
أولى تلك الحقائق تتصل بالمحاصصة السياسية ، حيث تم حشر العرب السنة في دائرة العشرين في المئة منذ مجلس الحكم وما تلاه من محطات سياسية بسبب سياسة الحزب الإسلامي ، الأمر الذي وقع تكريسه عبر توزيع مقاعد البرلمان على المحافظات ، فضلا عن الجانب المدني من الدولة بسائر مؤسساتها.
ثاني تلك الحقائق تتصل بالبعد الأمني والعسكري ، فخلال سنوات ما بعد الاحتلال تمكنت القوى الشيعية القريبة من إيران ، بخاصة حزب الدعوة الذي يتزعمه المالكي ، ومن استقطبهم تاليا من خلال المصالح والمكاسب ، تمكن هؤلاء جميعا من السيطرة على المؤسسة الأمنية والعسكرية التي يعلم الجميع أن من يسيطر عليها هو الذي يسيطر عمليا على مقدرات أي بلد.
في سياق الظروف الموضوعية التي أضعفت العرب السنة ، ولا زالت قائمة إلى الآن ما يتصل بضعف الوضع العربي مقابل قوة الموقف الإيراني ، ففي حين تمكنت إيران من دفع جماعتها نحو صلب مواقع القوة في عراق ما بعد الاحتلال ، كان الوضع العربي يعيش هاجس إرضاء الأمريكان الذين كانوا يحاصرون العرب السنة من أجل وقف مقاومتهم ، بينما لم يمنحوهم من العملية السياسية سوى ما يمنحها الشرعية ، وبالطبع خشية إغضاب الشيعة ودفعهم نحو المقاومة المدنية والمسلحة.
ضمن هذه المعادلة وجد الأمريكان أنفسهم أسرى الإرادة الإيرانية ، وكان عليهم أن يسترضوها حتى لا تنقلب في وجوههم ، ومعلوم أن غضب الشيعة لا يوازيه غضب العرب السنة الذين مارسوا أقصى ما يستطيعون من ضغط مسلح ، بينما سيكون بوسع الشيعة ترتيب عصيان مدني مشفوع بعمل مسلح قد يكلف الأمريكان خسائر باهظة ، وربما هزيمة فاضحة.
وفيما تمتع الشيعة بالمرجعية الإيرانية التي تدير تناقضات قواهم على نحو معقول (الشارع الشعبي الشيعي لم يكسب كثيرا من هذه المعادلة) ، عاش العرب السنة اليتم السياسي ، أولا على الصعيد الداخلي بسبب رموز قيادية ضعيفة ومبتدئة في عوالم السياسة ، فضلا عن دوران أكثرها في فلك المصالح الشخصية ، وقد تأكد ذلك مؤخرا عندما اختلف رموز القائمة العراقية على كعكة المصالح ، الأمر الذي مكّن الطرف الآخر من تفتيتها وإعادتها إلى معادلة جبهة التوافق بقيادة الحزب الإسلامي خلال الدورة السياسية (البرلمانية) الماضية. وثانيا على الصعيد العربي ، وحيث تعيش مصر هواجس التوريث ، الأمر الذي حجّم نفودها في المنطقة بعد ارتهانها للضغوط الأمريكية ، فيما لم تغادر السعودية هواجس ما بعد هجمات أيلول وتهم الإرهاب التي حجمت حضورها (رفض المالكي دعوتها للقاء مصالحة على أرضها دليل على ذلك). أما سوريا فقد اكتفت بإفشال مشروع الغزو الأخطر عليها ، وارتضت بعد ذلك بترتيب مصالحها مع المالكي ، لاسيما أن علاقتها مع إيران أكثر من حيوية. وتبقى تركيا التي ساندت القائمة المذكورة بقوة ، لكن ضعف حكومة أردوغان أمام الضغط الأمريكي الغربي الذي تصاعد لصالح الدولة العبرية إثر معركة أسطول الحرية وما تلاها من تصعيد تركي ، هذا الضعف لم يمنح أنقرة فرصة إفشال أو تعطيل مشروع تولية المالكي ، وأقله منح القائمة العراقية حصة أكبر من الكعكة السياسية. ولا شك أن الأكراد كانوا حاضرين هنا بعلاقتهم الثأرية مع تركيا وحرصهم على إفشال تدخلاتها في الشأن العراقي.
في ضوء ذلك كله ، لم يكن بوسع القائمة إياها أن تمنح العرب السنة أملا جديدا بالعملية السياسية ، وتركتهم أسرى حالة اليتم التقليدية ، لاسيما أن مقاطعة العملية والاكتفاء بالمعارضة ليست واردة عند أكثر رموزها ، لأن أغلبهم كما قلنا يدورون في فلك مصالحهم أكثر من أي شيء آخر.
لا يُعرف على وجه الدقة كيف سترد هذه الفئة من الشعب العراقي على معادلة التهميش التي تأكدت من جديد. هل سيعود أبناؤها إلى المقاومة واحتضان القاعدة من جديد ، بما يعني دورة عنف جديدة لا يعرف مداها ، أم سينتظرون وضعا عربيا وإقليميا جديدا يساعدهم على الخروج من المأزق. هذا ما ستجيب عليه المرحلة المقبلة. (الدستور)