نداء استغاثة

ليس من المؤكد أنه كان ينوي الانتحار فعلا. ولعل الفرضية الأقرب إلى الترجيح انه كان يطلق نداء استغاثة مدويا ليس إلا. أتحدث عن ذلك الشاب الثلاثيني الذي أضرم النار بنفسه قبل عدة أيام في قلب شارع وصفي التل، جرى ذلك في منتصف النهار تقريبا، وعلى مرأى حشد كبير من البشر، بعد أن سكب على جسده مادة سريعة الاشتعال، ما يؤكدانه لم يتقصد الموت حرقا على الملأ وإلا كان بإمكانه الذهاب إلى خيار مختلف، كاللجوء إلى وسيلة انتحار أقل ضجيجا وأكثر حسما، كما يفعل في العادة مرضى نفسيون يعانون اضطرابات عاطفية خطيرة تؤدي بهم إلى أقصى حالات الاكتئاب، فيفقدون الرغبة كليا في الحياة، ويتخذون في لحظة مفصلية قرارا قطعيا لا عودة فيه بمغادرتها، ويعثر عليهم صباحا وقد تدلت أجسادهم من مشنقة نصبت ليلا في غرفهم أو استقرت رصاصة في رؤوسهم انطلقت من كاتم صوت، فيما أهل البيت يغطون في نوم عميق، أو تناولوا مادة سمية شديدة الفتك أودت بحياتهم من دون إثارة أية جلبة أو ألقوا بأنفسهم خلسة من عمارة مغمورة، ليس لها أي صيت يذكر، وبصمت بالغ بعيدا عن أية تغطية إعلامية. من هنا تبدو حالة هذا الشاب ذات خصوصية تسترعي الانتباه. وأفاد أنه أقدم على فعلته أملا بالخلاص من وضع معيشي صعب. ولم تورد الأنباء تفاصيل كثيرة حول الوضع النفسي والاجتماعي والمسلكي لهذا الشاب، كما لم يخضع بعد إلى تقييم نفسي بسبب إصابته البالغة بحسب تقرير الدفاع المدني الذي أفاد أن النيران أحرقت أجزاء كبيرة من جسد الشاب الهزيل! ولم يتسن كذلك للجهات الأمنية تحديد ملابسات وتفاصيل الحادث المأساوي الذي تداولته وسائل الإعلام المحلية على نطاق واسع. أيا كان الأمر، فإن القصة تظل مؤلمة إلى حد بعيد، وهي ليست أكثر من صرخة احتجاج فادحة أطلقها هذا الشاب بالنيابة عن جيل كامل من عاثري الحظ، ممن ينتمون إلى أسر بائسة محدودة الموارد، فاقدي الإحساس بالأمان المعيشي، معدومي الفرص في ظروف حياة طبيعية لا يشوبها القلق والفقر والحاجة، محظور عليهم ارتكاب أفعال منافية لواقع الحال مثل الحلم أو الأمل أو الطموح ! شبان شاءت الأقدار أن تكون أعوام عطائهم وحماسهم هي بالضبط أعوام يأسهم ونكوصهم وخيبة أملهم، لأنهم ببساطة أبناء زمان موحش شحيح عزت فيه وولت إلى غير رجعة قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، واندثر عصر كان الإنسان ما يزال قادرا على الإحساس بعذابات أخيه الإنسان، فيهب إلى تقديم المعونة للمحتاج كسلوك عفوي مفروغ منه.
ومن دون إعفاء الحكومة من مسؤوليتها بتحقيق العدالة الاجتماعية وفي النهوض بحال المواطن وتأمين سبل عيش كريم له، وتوفير فرص عمل تكفيه شر السؤال، غير أن السؤال يظل مطروحا حول ماهية الدور الذي يلعبه المقتدرون للحد من معاناة الأقل حظا من الفقراء والمحرومين، وماذا قدمت أيديهم من مجموع ثرواتهم الطائلة، دعما للوطن وأبنائه في ظل هذه الضائقة الكونية الخانقة، وماذا حدث لتلك الفكرة النبيلة التي تدور حول إغاثة الملهوف، وهل بقيت مقولة لا أحد يموت من الجوع صامدة فعلا، وهل يعقل أن تقام في الجغرافيا ذاتها وفي الحقبة الزمنية نفسها التي احترق فيها شاب في مقتبل العمر بفعل القهر وضيق ذات اليد وليمة غداء كبرى لأحد مرشحي النيابة بلغت كلفتها باعتراف المرشح ذاته 54 ألف دينار فقط لا غير!، ألا يدخل ذلك في نطاق العيب والحرام كذلك؟ (الغد)