نهاية الدولة المركزية

تم نشره الأربعاء 06 كانون الأوّل / ديسمبر 2017 01:06 صباحاً
نهاية الدولة المركزية
ابراهيم غرايبة

فقدت النخب المهيمنة القدرة (والرغبة أيضاً) على الاحتفاظ بالمدن والأسواق والمؤسسات كما كانت على مدى القرون الماضية، وإن كانت تظن أن في مقدورها أن تخرج من المجتمعات كما تحاول اليوم فإن ذلك لن يكون سوى لعب في الوقت الضائع، لأن الأمم والمجتمعات في بحثها عن الفرص الجديدة تتحول إلى كائنات وحضارة معلوماتية وشبكية، تنشئ عالمها وأسواقها ومواردها و... قادتها ونخبها أيضاً.
قد يكون جيلنا الحاضر شاهداً على نهايات كثيرة في المؤسسات والموارد والأعمال والمدن والإقامة والتخطيط والتفكير، ففي عصر المعرفة والمعلومات والشبكية لم نعد ننتمي أو قادرين على الانتماء إلى هذه المدن والمؤسسات، ومن المؤكد أن الجيل المقبل سوف يتخلص منها إن بقيت. فهذه المدن والأسواق والأعمال والمصالح القائمة، والتي أنشأتها ضرورات سياسية للهيمنة والتنظيم؛ لم تعد تصلح للنخب المهيمنة، ولم تكن ملائمة للمجتمعات في يوم من الأيام، فهذا الثبات والتماسك في تخطيط المدن والمباني والمؤسسات يعكسان رغبة في عدم التغيير في ظل تقنية وموارد تحتم الزوال في كل شيء، ولم يعد ممكناً سوى التفكير في أعمال ومؤسسات ومدن قابلة للتحول والتغير والاختفاء والظهور في سرعة ومن دون كلفة، والحال أن المدن كانت في منشئها في عصور الزراعة وما حولها من دفاع وتجارة سريعة الحركة والتغير والارتحال، تكاد تكون بلا حدود، ولعلها تلائم الشبكية الصاعدة أكثر من المدن والمؤسسات المعاصرة، فقد كانت المدن تنشئ مراكز حضرية جديدة أو توسع من حدودها، وقد تغير موقعها وتنتقل إلى موقع جديد، وكان نسقها العام عبارة عن عدد وفير من المدن الصغيرة والقرى التابعة لها على اتصال لا ينقطع بالمدن المجاورة والموزعة في أرجاء الإقليم على نطاق واسع، وكان يؤخذ في الاعتبار حاجة الناس وهم يسيرون على أقدامهم أو مع الدواب، وكان عدد السكان يتراوح بين بضعة آلاف وأربعين ألفاً، وكان من الخارج عن المألوف أن يتجاوز عدد سكان المدينة مئة ألف.
لم تكن العواصم الكبرى والمدن الهائلة سوى تعبير عن نظام الرأسمالية التجارية ونظام السلطة السياسية المطلقة والمركزية، ولم تكن مصلحة في ذلك سوى للقلة المهيمنة، لكن أدوات التنظيم والمركزية تتلاشى اليوم، فالمؤسسات الإعلامية والتعليمية والتجارية والأسواق وعمليات البيع والشراء والعمل التي أخضعت الناس إلى عمليات تنظيم واتجاهات في العمل والإقامة والسلوك والتفكير تتحول هي إلى شبكات بلا مركز ولا سيطرة، وفي انسحاب المجموعات والمؤسسات المهيمنة على الموارد والمجتمعات من التزاماتها التنظيمية والتمويلية معتقدة أنها تقلل التكاليف والجهود تترك الأفراد والجماعات ليعيدوا تشكيل أنفسهم وأعمالهم ومواردهم بعيداً عنها، هذه الفوضى وإن خسر الناس في ظلها أعمالهم ومدنهم وحياتهم هي أيضاً تخفي النخب والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية.
كانت الحضارة الصناعية المعاصرة تحولاً من الشمول إلى الانتظام ومن الخضوع للدين إلى الخضوع للقانون والسلطة السياسية، وفي ذلك أنشئت المدن وأنظمة العمل والتمويل لمصلحة التحالف الجديد من السياسيين والصناعيين والبنوك، وكما يقول لويس ممفورد فإن المختصّين بهندسة الطرق والقائمين على المدن وقعوا تحت تأثير الإقبال الشديد على استعمال السيارة الخاصة، وشعروا بأن الواجب يقتضيهم معاونة شركات صناعات السيارات على الازدهار حتى لو كانت النتيجة هي الفوضى وتعطيل جميع أساليب النقل المختلفة اللازمة لنظام صالح، وقصروا وسائلنا على السيارة الخاصة في حين أنهم كدسوا في المدن سكاناً لا تستطيع السيارات الخاصة أن تفي بخدماتهم ما لم تدبر المدن ذاتها لتهيئة المجال اللازم لحركة السيارات وتخزينها. وتحولت الضواحي من مبان قائمة في وسط الحدائق إلى مبان قائمة في ساحات مواقف السيارات. بذلك، خسرت الضواحي ميزتها الوحيدة، إذ إنها نشأت حول المدن أو قريباً منها بدافع اعتزال الناس مثل راهب والعيش مثل أمير مع القدرة على التمتع بمزايا المدينة.

الغد 2017-12-06



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات