مجلس خال من الدسم السياسي

المدينة نيوز – فهد الريماوي - : انزاحت - ولو قليلاً - مشهدية الانتخابات النيابية عن شاشة الفعل المضارع، وطفقت وقائعها ويومياتها البائسة تتوارى بشكل تدريجي خلف ستائر النسيان•• غير ان الجراح التي خلفتها ستبقى ساخنة الى امد طويل، كما ان الدروس والعبر والنتائج المستخلصة منها ستبقى حاضرة بقوة، وماثلة بوضوح امام انظار المراقبين والمتابعين•
لقد تميزت - ولا نقول امتازت - هذه الانتخابات المفصلية عن عموم سابقاتها الانتخابية التي جرت تباعاً منذ انتفاضة نيسان عام 1989، بجملة من الغرائب والعجائب والمتغيرات النوعية المفجعة والمفزعة التي سيكون لها ما بعدها من عقابيل فادحة المخاطر والاضرار، ليس على الصعيد النيابي او الانتخابي فحسب، بل وعلى المستوى الوطني ايضاً•
لا جدال ان هذه الانتخابات غير المسبوقة في تاريخ الاردن، سوف تشكل منعطفاً حاداً وحاسماً يفصل بين ما كان من شؤون وشجون انتخابية حتى الامس القريب، وبين ما سيكون مستقبلاً من هذه الشؤون والشجون التي سوف تشهد اختلافاً جذرياً يبلغ حدود الانقلاب، اذا لم يتدارك الله البلاد والعباد بصحوة سياسية واصلاحية تبدأ باسقاط قانون الصوت الواحد وحيثياته ومشتقاته ومخرجاته•
وبصرف النظر عن مساحة التدليس والتزوير في هذه الانتخابات التي استجرت سلسلة من المعارك الاحتجاجية التي بلغت اقصى درجات العنف، وشملت سائر ارجاء الوطن•• فلعل القراءة المتأنية في مقدماتها ومجرياتها ومخرجاتها ان تكشف الكثير من الدروس والملاحظات والمؤشرات التي تستحق من اهل النخبة وصناع القرار التوقف المطول امامها، والاتعاظ بما تيسر من دروسها وعبرها، حرصاً على دور السلطة التشريعية، وتلافياً لعبثية الانتخابات النيابية، وتحولها من مهمة شعبية ووطنية الى مجرد مسابقة رياضية او مباراة تلفزيونية منزوعة الدسم السياسي•
وعليه•• وبعيداً عن كل هجائيات قانون الصوت الواحد، وشبهات التزوير والتمرير والتدخل السريع، بل بعيداً عن كل ما قيل في شأن هذه الانتخابات مدحاً وقدحاً، يمكننا التأشير الى المعطيات والاستخلاصات التالية التي قد تطرح سؤال الحياة النيابية، وهل فقدت دورها واهميتها ولزوميتها••
1 - بعد اليوم لا لزوم في الانتخابات النيابية للمرشح الكفء، او البرنامج السياسي، او الثقل الشعبي، او العمل الميداني من لقاءات ومهرجانات وخطابات، فهناك من سماسرة العملية الانتخابية ومتعهديها ومافياتها ما يتولى "صناعة المرشح "، والتعويض عن كل تلك اللوازم والاجراءات، مادام المال حاضراً والقانون غائباً•
بعد اليوم ستتماهى العملية الانتخابية مع الالعاب الكروية، والصفقات التجارية، والمنافسات الفنية، والمقاولات الانشائية التي لا مكان فيها للاعتبارات الوطنية والسياسية، والتي تتولى تنظيمها وترتيبها عصابات خفية تعمل من خلف الستار، وتمارس ابشع انواع المقامرة والسمسرة وشراء الاصوات، واخراج المواطنين من فطرتهم الوطنية وقناعاتهم السياسية، والزج بهم في حلبات المتاجرة والفهلوة والفساد والكسب غير المشروع•
باختصار، لقد ولى زمن الانتخابات النيابية الطوعية والاقتناعية والضميرية، وتحولت العملية برمتها الى محض لعبة بزنس واستئجار واستثمار يحكمها رأس المال، ويستفيد منها، اكثر ما يستفيد، المقاولون ورجال الاعمال•
2 - ثبت بملموس التجربة الراهنة ان قانون الصوت الواحد لم يسفر عن خدمة المؤسسة العشائرية والاعلاء من شأنها وقدرها، كما توهم الكثيرون، بل لعله قد ادى الى العكس تماماً، واسفر عن تشققها وتمزقها وضرب وحدتها العضوية، ولو تمعنا حجم الخلافات والصراعات التي اندلعت، بسبب الانتخابات، بين افخاد العشيرة الواحدة، ثم بينها وبين العشائر الاخرى، لوجدنا ان اقحام العشائر في آلاعيب السياسة قد ظلمها ولم يخدمها، تماماً مثلما ظلم السياسة حين ادخلها تحت سقف العشائرية•
معروف ان العشائر العربية سابقة على قيام الدول، وانها مؤسسات اجتماعية تكافلية وتضامنية محترمة تتولى رعاية وحماية ابنائها، وتقوم على اساس الترابط والتراحم والعزوة وصلة القربى ووحدة الدم، وليس على اسس سياسية او عقائدية او مهنية•• الامر الذي يعني ان ابعادها عن ماهيتها الاجتماعية الجامعة، واقحامها في الملعب السياسي المحكوم بالخلافات والمكائد والانقسامات والاجتهادات المتعاكسة، سوف يجني عليها، ويسهم في تفكيكها وتقويض دورها ومكانتها ورسالتها التقليدية•
3 - حتى لو صدقت النسبة المئوية التي اعلنتها الحكومة لعديد المقترعين، والتي بلغت 53 بالمئة، فهي نسبة صماء وعرجاء لا تسمن ولا تغني من جوع، علاوة على انها لا تشكل انتصاراً لدعاة المشاركة على اصحاب المقاطعة الانتخابية، نظراً لان القسط الاكبر والاغلب من اللعبة الاقتراعية او التصويتية قد تم لدوافع واسباب مالية ومناطقية وعشائرية، وليس على قاعدة وطنية وسياسية ونيابية•• فشتان بين الصوت النيابي المحكوم بالبعد الوطني والتمثيلي، وبين الصوت المالي او العشائري المحكوم بابعاد مصلحية او عصبوية ضيقة ومنغلقة وبعيدة عن الروحية الشاملة والعمل العام•
عددياً، نجحت الحكومة في رفع نسبة المشاركة الانتخابية الملفقة•• اما نوعياً فقد نجحت المعارضة في حمل الصوت النيابي والوطني والسياسي على المقاطعة، وادارة الظهر لصناديق الاقتراع التي عادت من مخيمات اللاجئين وسائر مناطق الكثافة السكانية والاهتمامات السياسية، شبه فارغة وخاوية الوفاض•
قد نصدق ان الحكومة امتنعت رسمياً عن مقارفة التزوير، ولكنها لم تتورع، لغرض رفع نسبة الاقتراع واحلال الصوت المزيف محل الاصيل، عن ترك الحبل على الغارب لكل تجار المناسبات، وسماسرة البيع والشراء والغش والتزوير•
4 - قطعاً، لن يكون المجلس النيابي الحالي افضل من سابقه الذي تم حله مبكراً لدواعي ضعفه وتزويره، ولعل نظرة فاحصة على تركيبة هذا المجلس الطازج والخالي من الدسم السياسي والمشاركة الاسلامية، سوف تكشف بجلاء وهن هذه التركيبة وهزالها وبعدها عن التمثيل الكلي والحقيقي لمختلف مكونات المجتمع الاردني، الامر الذي سينعكس سلباً على ادائها النيابي ومهماتها التشريعية•
ولأن المكتوب يُقرأ من عنوانه، فلسنا في حاجة لانتظار اداء هذا المجلس كي نحكم عليه، بل يكفينا ان نقرأ العناوين لندرك كنه المضامين، وان نتذكر البدايات لنعرف نوع النهايات، ولعله لن يطول الوقت قبل ان يتولى هذا المجلس خذلان نفسه، ويتطوع لكشف حقيقته وفضح دوره•
لقد كُتب علينا، وسط حملات التضليل والتهويل، ان ندرك الحقائق في وقت متأخر، وربما بعد فوات الاوان•• واذا كنا قد عرفنا ان مجلس النواب السابق هزيل ومزور عقب رحيل حكومة البخيت التي فبركته، فليس امامنا لمعرفة خبايا واسرار المجلس الراهن سوى انتظار رحيل حكومة الرفاعي التي تفننت في انتاجه واخراجه !! ( المجد )
الزميل الكاتب فهد الريماوي