إلى الشباب مؤدلجا ثوريا رومنسيا حالما

عبر العقيد معمر القذافي في مطلع عهده عن الجيل الجديد من الشباب العربي الثائر على الواقع المهزوم عام 67. وإلى اليوم ما يزال العقيد يطرح شعارات ثورية باتجاهات شتى مع أنها بهتت ولم يعد لها ألقها. في مقابله كان الحبيب بورقيبة تجسيدا لجيل الشيوخ المجربين الذين يريدون الانتهاء بسرعة من مرحلة النضال والاستقلال والوصول لبناء دولة القانون والمؤسسات التي تعتني بالتعليم والثقافة والصحة أكثر من عنايتها بالسياسة والأحزاب والجيش والأمن.
غير أن بورقيبة، وهو ذو سابقة نضالية كان يتفهم النزعات الثورية للشباب ويقدرها. زار العقيد تونس في مطلع عهده وطلب أن يلتقي بطلاب الجامعة، وسمح له بورقيبة، وفي الصباح كان الثائر – العقيد يحرض الطلبة على الثورة وتحدي أميركا والاستعمار. سمع الحبيب الخطاب في الإذاعة مباشرة وهو يحلق ذقنه صباحا، فهرع إلى الجامعة وانتزع المايكروفون من ضيفه، وعاتبه مغاضبا كيف يتحدث مع الشباب بهذه اللغة. وقال له وللشبيبة التونسية، أنت تتحدى أميركا وعندك دبابتان روسيتان إن عطلتا تحتاج إلى خبراء روس لإصلاحهما؟ هؤلاء يتحدون أميركا ؟ مكيف الهواء في القصر عندي عاطل من أسبوعين لا أحد يستطيع إصلاحه، هؤلاء يتحدون أميركا؟ يتحدونها، على قول بورقيبة، بالعلم والمعرفة والتحصيل والجد والاجتهاد.
رحل بورقيبة وحقبته تماما كما رحلت الحقبة القذافية الثورية. لكن شباب الجامعات ظلوا يتكاثرون في العالم العربي. وسيظلون دائما أداة التغيير الوحيدة. وبورقيبة لم يجد غضاضة في تلقي الطلبة جرعة ثورية. وأعطاهم في مقابلها جرعة واقعية. اليوم نفتقد رجل دولة مثله، فهو كان في شبابه مؤدلجا وثوريا ورومنسيا وحالما، ونضج عندما صار رجل دولة ، ومع أنه لم يكن ديمقراطيا إلا أنه بنى دولة حديثة، ومهما قيل فيه من مآخذ وجلها صحيحة إلا أنه رحل عن الدنيا ولم يمس المال العام ولم يورث ذريته لا مالا ولا مواقع، ( هنا تجدر المقارنة مع أقرانه الذين كانوا يزاودون عليه في الثورية).
أحوج ما نكون في هذه المرحلة من الانحطاط والسقوط أخلاقيا وسياسيا، إلى شباب مؤدلجين. شباب يحلمون بالخلافة الراشدة أو بالأمة الواحدة أو باتحاد عمال العالم ..هل أصبح الحلم الجميل تهمة؟ يجلس كمن يشتم رائحة كريهة ويقول لك " إنه مؤدلج". طبعا هو لايريد الشاب متحررا فكريا من إيديولوجيا مغلقة، هو يريده طبلا أجوف، متذوقا لأصناف الخمور، ويميز بين أنواع المعسل، وينفق جل دخله على تغيير الهواتف النقالة والسيارات المكشوفة والسفر العابث اللانهائي..وينتهي الشاب مخمورا في حادث سيارة مروع. إن عدد الشباب العربي الذي يقضي في حوادث جنونية أكثر بكثير ممن قضوا في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال.
مقابل تحريم الأيديولوجيا والسياسة عن الشباب العربي، باعتبارهما اختلافا مع الواقع المهزوم أسوأ من هزيمة 67، تفرض أيديولوجيا التفاهة للإبقاء على الهزيمة. وفي حركة التاريخ البشري ثبت أن الشباب يظل عصيا على التطويع خشنا أم ناعما. معتصما بآماله وأحلامه، وفي العصر الأميركي يحسن الاستعانة بعنوان كتاب أوباما "جرأة الأمل". وبانتظارالآمال الجريئة في مواجهة الكوابيس المريعة. (الغد)