طوكيو والكوكب الآخر

يحدثني صديقي القادم من طوكيو قبل أشهر مبهوراً ومدهوشاً وهو يقول: أشعر أنّي قادم من كوكب آخر ومن عالم آخر، مع أنّ هذا الصديق مقيم في المملكة المتحدة، ويدرس في إحدى جامعاتها، فأول محطة من محطات الدهشة أنّه عندما ركب «التاكسي» وناوله الأجرة، طلب من السائق أن يحتفظ بالباقي فكانت ردة الفعل لدى السائق عجيبة وغريبة، وكانت عليه علامات الغضب، ورمقه بنظرات مليئة بالاحتقار والازدراء، لولا أنّه نظر في وجهه وسحنته ولغته فعلم أنّه غريب ,وأنّه من كوكب آخر، فقلل ذلك من حجم السخط المتوقع.
فيقول الصديق: لقد غرقت في الحرج، وعلا ملامحي الخجل المصحوب بالإثارة، وعلمت من الذين معي أنّه لا يجوز لسائق التاكسي أن يأخذ قرشاً زيادة عن العداد، وليس هذا فحسب، بل أنّه أمر معيب ومنقصة أن يحتفظ بالباقي، وتشكل اعتداءً على شخصيته وانتقاصاً من كرامته.
ويضيف صديقي المدهوش، بل حدث معي أمر آخر أكثر غرابة فقد ركبت «التاكسي» مرة أخرى، وعندما أعطيته الأجرة حسب العداد بالضبط، وإذ بصاحب التاكسي يرجع لي بعض النقود مصحوبة ببعض الاعتذار، فظننت أنّه مخطئ في الحساب وأخذت بمجادلته من أجل إفهامه، ولكن السائق يقول: إنّ هذه المسافة عادة لا تصل إلى هذا الحد ولكن في هذه المرة حصل إعاقة سببها ازدحام السير، ولذلك لا يستحق هذه الزيادة، بل إنّه يطلب المعذرة بسبب التأخير الذي حدث خارجاً عن قدرته.
أمر يستحق الدهشة والاستغراب فعلاً، عندما تعمد إلى إجراء مقارنات، والنظر إلى الأشباه والنظائر، فدهشت أنا أيضاً بدرجة تزيد عما شعر به الصديق الكريم، فقال أريد أن أزيدك من الشعر بيتاً، ليس هذا مقتصراً على سائقي التاكسي والحافلات.
بل في جميع المحلات، وفي المطاعم، تحرم الرشوة، ويحرم (البقشيش) وما يسمّى عندنا (بالإكراميات) «.
وعندما رأى صديقي عينيّ مفتوحتين على اتساعهما، تحت مطارق الاندهاش والاستغراب، فأمعن في المزيد من الأمثلة التي تزيد من منسوب الدهشة والإثارة، فيقول: لقد أعجبني اللباس التقليدي الياباني، فلبسته وأخذت أتجوّل فيه في الأسواق والمحلات، وضحك فظننت حدوث بعض الغرائب والمواقف المحرجة، فقال عندما ركبت «التاكسي» أرجع لي نصف القيمة، وعندما أيقنت أنّ الرجل أخطأ الحساب، فقال: إنّ من يلبس هذا اللباس الياباني التقليدي يحاسب بنصف القيمة العادية فقط، وهذه المعاملة كانت أيضاً في المطاعم ومحلات القهوة.
وعند ذلك لم أشعر بالدهشة والاستغراب فقط، بل بالحزن والحزن العميق الممزوج بالحسرة والألم على هذه الأمّة، التي تتربع على مخزون من القيم والأعراف والتقاليد، ومنظومة أخلاقية، نسجتها رسالة الوحي من أجل بناء أمّة وإخراجها لتكون خير أمّة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتكرم الضيف، وتأمر بصلة الرحم وإعانة الملهوف، وإغاثة المنكوب، وأكل الطيبات وتحريم الخبائث، والوقوف على الحق، ونبذ العدوان، والامر بالتواضع وخفض الجناح والغض من البصر، وعدم رفع الصوت، وتحريم التكبّر والنهي عن الفحش والتفحش، والنهي عن الرشوة والغلول، ومدح الكرم والعطاء، والحض على التراحم والتعاطف والتعاون، والنهي عن التقاطع والتدابر واللمز والهمز، والأمر بإفشاء السلام وإطعام الطعام وخدمة النّاس والسير بحوائجهم.. ونتخلى عن كل ذلك.. وياتي اليابانيون ليعلمونا حسن التعامل وجمال التعاون والعفّة والرفعة والانتماء.
ما الذي يحول بيننا وبين هذه التقاليد، ولماذا لا يكون هناك تعاون بين جميع الجهات والقوى والمؤسسات على إرساء حياة مثالية، ترتفع إلى مستوى إنسان الرسالة القيميّة الحضاريّة التي سوف تعود علينا بالأمن والاستقرار والغنى والعفّة والتماسك الاجتماعي، ونظافة البيئة وجمالها، وحسن التعامل وجمال التعاون على البرّ والتقوى ونبذ كل مظاهر البلطجة والعدوان. (الراي)