الانتخابات المصرية: «أغلبية»..«أغلبيتان..«ثلاث أغلبيات»

تكشفت الانتخابات المصرية الأخيرة عن "أغلبيتين" ، لا أغلبية واحدة.. هذا ما ألمحت إليه "الإيكونوميست" الرصينة في معرض تناولها لانتخابات مجلس الشعب المصري ، "الأغلبية الأولى" ، الساحقة ، من كانت من نصيب مرشحي الحزب الوطني الحاكم الذين سيشغلوا أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من مقاعد المجلس.. و"الأغلبية الثانية" ، وتتمثل في اتجاه فئات وشرائح متزايدة من الطبقة الاجتماعية التي تنتجها هذه الانتخابات ، للانفصال والابتعاد عن السواد الأعظم من الكادحين الذين يزدادون فقراً وعددا.
ونحن بدورنا نضيف إلى هاتين "الأغلبيتين الكاسحتين" ، "أغلبية ثالثة" ، وكاسحة أيضاً ، بل كاسحة أكثر من سابقتيها ، وتتمثل في الجموع الغفيرة من المستنكفين عن المشاركة في الانتخابات.. الذين فاقت نسبتهم الثمانين بالمائة وفقا لأغلب التقديرات ، أما وفقا للأرقام الرسمية ، فقد كانوا ثلاثة من كل أربعة ناخبين ، وهذا من باب أقل التقدير.
خلاصة تعليق "الإيكونوميست" ، أن الحزب الحاكم ، أي حزب حاكم ، بمقدوره أن يصل إلى "الأغلبية الساحقة" بوسائل "البلطجة" و"القمع" و"التزوير" ، لكن ما لا يدركه قصار النظر ، الفرحون بمكاسبهم الآنية ، أن الدول والأوطان والمجتمعات والشعوب ، هي الخاسر الأكبر في لعبة تزوير إرادة الشعب والناخبين ، وأن انفضاض الجماهير من حول النظام ومؤسساته السياسية والدستورية المختلفة ، هو "الوصفة المجربة" للخراب المُقيم.
والحقيقة أنني لم أقرأ نصاً واحداً خارج الرواية المصرية الرسمية لما حصل ، يثمن أو يشيد بالانتخابات شكلاً ومضموناً ، كل ما قرأته كان سلبياً ، وحدهم الفائزون من الحزب الوطني - وليس جميع الحزب الوطني - هم الذين يشيدون بنزاهة الانتخابات وشفافيتها ، هؤلاء مدينون لما هم فيه وعليه ، للحزب والحكومة والأجهزة والمؤسسات ، التي رسمت وخططت ودبرت ونفذت ، وأحالت "العرس الديمقراطي" إلى "مأتم وطني" عام ، هؤلاء هم الذين عنتهم "الإيكونوميست" في مقالها المذكور.
أما مثقفو السلطة ومنظروها فقد أدركوا بدورهم ، حجم المأزق المتأتي عن "البث المباشر" لمظاهر الانتهاك والتعدي و"البلطجة" ، ولم يعد بمقدورهم القول أنها انتخابات نظيفة ونزيهة وشفافة ، فلجأوا إلى ممارسة بعض التكتيكات "الديماغوجية" من نوع "نزع صدقية ونزاهة" جميع الانتخابات التي أجريت في الإقليم مؤخراً ، تماما مثلما يعمد المتورطون بجرم أو جناية أو انحراف إلى ادعاء أن الجميع سيفعل شيئا مماثلاً إن واجه ظروفاً مماثلة ، "ما حدا أحسن من حدا" ، كما أنهم لم يدخروا جهداً للانقضاض على التيار الإخواني ، وعلّقوا عليه كل الأوزار والمثالب بل والفضائح التي رافقت العملية الانتخابية ، وكأنه هو من يحكم مصر ، وليس الحزب الوطني.
ثمة تقييم سلبي عام للانتخابات المصرية ، ومن قبل معظم إن لم نقل جميع الدوائر الإقليمية والدولية ذات الصلة ، ثمة استياء مما سبقها ورافقها وأعقبها ، من تعديات وانتهاكات وتدخلات مريبة.. صورة مصر التي لم تكن ناصعة على صعيد الحرية والديمقراطية والتعددية ، تحوّلت من "الرمادي" إلى الرمادي الداكن ، حتى لا نقول إلى السواد ، ومكانة مصر بعد الانتخابات أقل شأناً مما كانت عليه قبلها ، وأسئلة الشرعية ستظل تطارد السلطات ، التنفيذية والتشريعية والقضائية ، بل وستظل تطارد النظام ، طالما أن الجميع مؤمنون بأن "مصر لم تنتخب" ، وأن إرادة الناخبين كانت موضع تلاعب وتزوير.
ولن يعود بوسعنا ، نحن الذي نقول بأن تيار الإسلام الساسي إلى تراجع على مستوى الإقليم ، أن نجزم بما إذا كانت مصر جزءا من مسيرة التراجع والتآكل هذه ، أم أن إسلامييها لديهم من طاقة الحركة والنشاط والدعوة ، ما سيمكنهم من النهوض من كبوة الانتخابات ، إلى ضفاف أوسع وأرحب.
جميع دول العالم تجري الانتخابات لتجديد الدماء في عروق نخبها المتيبسة ، وتجديد ثقة المواطنين بقيادتهم المنتخبة أو سحبها منهم ، هذا هو منطق تداول السلطة والانتقال السلمي إليها ، أما عندنا في أمة لسان الضاد ، فإن المسألة تبدو مغايرة تماماً ، الانتخابات ليست سوى غطاء لإعادة انتاج "ثالوث التمديد والتجديد والتوريث" ، وهي افتئات على حق الشعب في قول رأي حاسم ، واختيار من يريد وما يريد ، هي وسيلة لإدامة الأوتوقراطية وتجديد سلطتها تحت مبرر الخوف من صعود "الثيوقراطية" المتدثرة بلبوس الإصلاح والتغيير.
والخلاصة أن مصر بعد انتخابات 2010 لن تبقى كما كانت قبلها ، فالعلاقات بين مكونات المجتمع السياسي المصري ، وصلت حافة الهاوية ، ومناخات الإحباط تبدو متفاقمة بصورة منذرة بالخطر ، وآفاق التغيير والإصلاح باتت مسدودة في المدى المرئي والمنظور على الأقل ، الأمر الذي يشي بزيادة حدة الاحتقانات الاجتماعية ، ويشير إلى احتمال تنامي الميل المتطرف للتعبير غير الشرعي ، وغير السلمي ، عن المواقف والآراء.
وإذا كان من الجائز النظر لانتخابات 2010 البرلمانية على أنها "بروفة" لانتخابات 2011 الرئاسية ، فإن "المكتوب يقرأ من عنوانه" ، وعنوانه هذه المرة ، العودة لـ"99,99 بالمائة" ، وإعادة الاعتبار لمسلسل التوريث الذي يطوف في العواصم العربية ، كما تطوف الدراما التركية على شاشاتنا الفضيّة من محيط الوطن الذي كان هادرا ذات يوم ، إلى خلجيه الذي كان ثائراً هو الآخر. (الدستور)