يأكلون لحم أبنائهم !

في البداية لم أصدق وقد استمر في تكذيب نفسي الى الأبد ، ما دامت تلك الحكايات ليست من نسج خيال اسود ، كيف نصدق مثلا أن هناك أبا يأكل لحم ابنه ميتا؟ ويقبل بالمقايضة حتى مع عدو لا يوزن فيها اللحم المأكول بميزان الذهب بل بميزان البصل بعد أن تبنت له شروش ويتعفن.
وحين قال الشاعر الانجليزي وورد زورث عبارته الشهيرة وهي الطفل أب الرجل ، وجدت تأويلات لا حصر لها. لكن أشهر هذه التأويلات هو أن الابن عندما يكبر يتحول الى أب لأبيه ، لا من حيث رعاية شيخوخته فقط بل لأن دورة الزمن تقلب المعادلات كلها ، فالطويل يقصر والقصير تطول قامته ، لهذا أذكر ان أمي حين ودعتني لأول مرة وأنا ذاهب الى الجامعة ، انحنت عليّ لأنها الأطول وهي تقبلني ، لكن حين عانقتها لآخر مرة انحنيت أنا عليها لكي أقبلها،
لكن هذه التداعيات ليست عديمة الصلة بما سميناه أكل لحم الأبناء الموتى ، فالأب الذي يقبض ثمن ابنه ليتزوج به أو يصفي حسابات قديمة مع جوع مزمن ليس أبا لأحد.. لأنه باختصار لم يكن ابنا لأحد حين سمعت أول حكاية شعرت على الفور بأنني بحاجة نفسية للاعتذار الى ولدي ، والى كل الابناء في هذا الكون حتى لو كانوا أبناء الماعز والخيول والثعالب.
وحين سمعت حكاية ثانية عن أكل لحم الابناء الموتى.. وضعت صورة أمي فوق المكتبة ، رغم انها أميّة ولم تكتب حرفا واحدا ، لكنها كتبتني ، وكنت أحد نصوصها بخيره وشره ، وجماله وقبحه ، ذلك لأنها قالت لي ذات ظهيرة سوداء مفعمة بدموعها.. ان الكلب لا يذبح حتى لو سمن وأصبح بحجم عجل أو جمل،
منذ تلك الظهيرة لم تخدعني الكلاب السمينة ولا دموع الآباء التجارية في مزادات الدم الأرخص من الزيت،
لقد كتب باحثون من مختلف أقطار العرب دراسات في علم النفس الاجتماعي رصدوا من خلالها الانقلابات التي عصفت بالانسان في مجتمعاتهم..
بدءا من دراسة د. صادق العظم النقد الذاتي بعد الهزيمة مرورا بكتابات د. علي زيعور وسيد ياسين وجلال أمين وآخرين وليس انتهاء بما ينشر الآن عن نتائج وتجليات عولمة الشقاء.
كتابات هؤلاء أجمعت بالرغم من تفاوت وتباين المناهج والرؤى على أن الوصولية والفهلوة ببعديها الاجتماعي والسياسي وكل ثقافة النفاق والممالأة جعلت العربي تائها بلا أية بوصلة ، وصارت معرفة خير السبل لأكل الاكتاف حتى لو كانت اكتاف الاخوة والابناء فقها اجتماعيا جديدا ، انها ملامح بارزة في وجه هذه المرحلة القبيح.
وقد قلنا مرارا وفي العديد من المناسبات ان ما بدأه فرويد عالم النفس بما سماه جريمة قتل الآباء يضيف اليه العرب المعاصرون فصلا آخر أو ملحقا مكتوبا بالدم تحت عنوان جرائم قتل الأبناء..
ما من أحد منا يستطيع اعادة اختراع أبيه أو أمه مثلما لا يستطيع اعادة اختراع شكل جلده الا اذا فعل ما فعله مايكل جاكسون الذي ظن بأن البياض خارجي فقط ، وأن الرجل الأبيض ليس أشد سوادا من الفحم في داخله أحيانا..
كيف يؤتمن على وطن أو ثقافة أو حتى على قطة مريضة من لا يتورع عن أكل لحم ابنه.. ميتا بعد أن ضاق به حيا؟؟ (الدستور)