كي لا تكون الإحصاءات مجرد (عد عصي)

تُجري دائرة الإحصاءات العامة بشكل دوري إحصاء رئيسياً حول دخل ونفقات الأسرة, وقد عملت الدائرة على تطوير هذا الإحصاء وتحسين تقنياته وتوسيع حجم العينة بهدف الحصول على أرقام أكثر دقة. ويعتبر هذا الإحصاء المادة الرئيسية التي يجري الاعتماد عليها في كثير من التحليلات في الميدان الاجتماعي والتنموي. وقبل أشهر مثلاً صدر تقرير دراسة الفقر بالاعتماد على أرقام آخر إحصاء, وبالأمس أعلنت دراسة عن الطبقة الوسطى في الأردن اعتماداً على تحليل أرقام الإحصاء ذاته, والدراسة هذه المرة صدرت بالتعاون بين المجلس الاقتصادي الاجتماعي ووزارة التخطيط.
للإنصاف, لقد طورت دائرة الإحصاءات العامة شخصيتها كمؤسسة محترفة منذ أكثر من عقد ولا تزال, لدرجة قد يصعب معها الكلام عن تسييس أو توجيه فج للأرقام رغم خضوع الدائرة لوزارة التخطيط. لكن بالمقابل يمكن الحديث عن تسييس في اختيار منهج الإحصاء, وهو أمر قد يبرره الإحصائي من الناحية العلمية/ الأخلاقية على طريقة الباحثين عن فتاوى, بمعنى أنه من الجائز اختيار "المذهب" الإحصائي الذي يهدئ البال. ومن المعلوم بالمناسبة أن الإحصائيين لا يتوقفوا فيما بينهم عن الكلام عن الإمكانات التي يتيحها علم الاحصاء للحصول على أرقام حسب الطلب, وهناك كتاب لا يزال شهيراً رغم مرور أكثر من نصف قرن على تأليفه وعنوانه "كيف تكذب بالإحصاء".
مع هذا فإن دائرة الإحصاءات هي الجهة الأخيرة التي يمكن أن يوجه لها اللوم في الشؤون التنموية والاجتماعية كافة, وللأسف يحصل عادة عكس ذلك, فعلى سبيل المثال, وفي جلسة موسعة لنقاش تقرير الفقر انصب أغلب النقاش والنقد على دائرة الإحصاءات, مع أن دورها اقتصر على إحصاء وعد ما يفعله أو ما اقترفه الآخرون.
الأصل في علاقة الإحصائي بالاجتماعي أن الثاني أي الاجتماعي هو الذي يضع المشكلة أمام الإحصائي ويطلب منه أن يحولها إلى أرقام وبيانات كي يستطيع معالجتها, والى وقت قريب ظلت العلاقة معكوسة إلى حد كبير, وظلت دائرة الإحصاء تقدم أرقاماً عامة فيما ينهمك كل فريق (وزارة مثلاً) بالبحث عما يعنيه منها. وعلينا أن نعترف أن الصورة تحسنت في السنوات الأخيرة وإن لم تحل بالكامل, وهناك في التطبيق أمثلة فكاهية جداً على هذه العلاقة المختلة.
ما مناسبة هذا المقال?
بالأمس رعى وزير التخطيط إطلاق دراسة عن الطبقة الوسطى في الأردن, وهي دراسة إحصائية وصفية بامتياز وهذا يسجل لها لا عليها ما دامت حددت هدفها كذلك. لكن المفارقة التي يصعب العثور على تفسير علمي/ إداري/ أخلاقي لها (والحديث هنا عن أخلاق الدولة أو السلطة) تكمن في أن وزارة التخطيط وهي التي مر من بين أيديها خلال عقد ونصف مضى كل السياسات التي دمرت الطبقة الوسطى (مثل الخصخصة, ورفع الدعم, وانسحاب الدولة من الخدمة العامة, وإنفاق المساعدات في برامج غير تنموية, ومد اليد إلى القطاع غير الرسمي أو ما يعرف بقطاع التوظيف الذاتي بحجة إسناد المبادرات الأهلية, وغيرها), وتسببت بالتالي بدفع فئات واسعة من الطبقة الوسطى نحو الفقر, هي ذاتها, أي وزارة التخطيط, تقدم نفسها هنا كدارس أو باحث أو متقصٍ بريء عن حال الطبقة الوسطى, وقبل ذلك كانت قدمت نفسها أكثر من مرة كباحث في موضوع الفقر.
في مثل هذه الحالة يحق لنا التساؤل عن جدوى الإحصاء. إنه أمر مقبول من دائرة الإحصاءات أن تحصي لأن هذه هي مهمتها, ولكن محتوى الإحصاء أي الظاهرة المحصاة, ليست مسؤولية هذه الدائرة.
إن السؤال المنطقي الذي يلي أية إحصاءات هو سؤال يتعلق بالسياسات والخطط والبرامج والأولويات والجهات ذات النفوذ والمصالح. وفي حالة لم تتحمل الجهة المسؤولة عن الرقم السيئ والمتسببة به, مسؤوليتها واكتفت بإحصائه, فإن كل الإحصاءات لا تكون أكثر من "عد عصي". (العرب اليوم)