رماد الكرمل

هل يشمت الفلسطينيون بذلك الحريق الذي اختبر قدرة اسرائيل على مواجهة الازمات الطارئة ام يحزنون؟ فالغابات الواسعة الخضراء والتي تتسلق السفوح نحو حيفا زرعها الفلسطينيون مثلما زرعوا زيتونهم وتينهم واحلامهم الخضراء في ذلك التراب. لهذا قال شعراؤهم ومنهم محمود درويش وراشد حسين ان الرغيف اذا عصر بيد يهودي سوف يسيل منه دم فلسطيني وان الزيتون عندما يتذكر غارسه يصبح الزيت دمعا.
انها لحظة عسيرة بل واحدة من المفارقات الكبرى في التاريخ تلك التي لا يدري المرء خلالها ان كان ما يرى يستحق البكاء ام الشماتة خصوصا اذا كانت الجغرافية رسولية بامتياز كرملي ، فتلك الارض مهرتها اقدام رسل وقديسين ومادت تحت جنازير الدبابات عندما حول الاحتلال ندف الياسمين الى غبار فحم ، واذكر ان الشاعر اوفيد في كتابه الضخم مسخ الكائنات روى حكاية مثيرة ومفعمة بالدلالات عن السبب الذي جعل بعض الزيتون مرا ، فقد قال بطريقته المشحونة بالاسطورة ان راعيا متوحشا افسد على الحوريات رقصتهن قرب غدير ولأنهن خفن وولولن ثم هربن غيّر الزيتون طعمه واصبح مرا.. آلاف الاعوام مرت كي تتعتق الاسطورة وتصبح تاريخا واقعيا فالشاعر الروماني لم يشهد ما جرى في الكرمل او دير ياسين او مخيم جنين لكن احساسه بان هناك شرورا دائمة التربص بالكائنات الجميلة دفعه الى هذا التخيل ، ولو استطردنا في البعد الرمزي لهذا الحريق لقلنا ان الشجر ينتحر لانهم فرضوا عليه بالقوة العمياء ان يغير حفيفه فيصبح عبريا على سفوح الكرمل وتحت قدمي حيفا او بالقرب من عكا التي قال اهلها لو انها خافت من القرصان لما وقفت على شاطئ البحر المتوسط.
ان الشجر في الاحوال العادية ، وبعيدا عن حكايات اوفيد ومرارة الزيتون ، محايدّ فهو لا يقوى على صد افعى تتسلق الجذع او تتمطى في ظله لكن ما ان يندفع التاريخ بهذه القوة نحو الاسطورة حتى يفقد كل شيء حياده.. فالحجر لا يعود حجرا لانه يقفز من مكانه الى قبضة طفل والشجر قد يضرب عن الثمر لان الحاصد هو قاتل الزارع والمتربص بسلالته..والاب الذي يُختطف ابنه يزداد حبا له وعطفا عليه تماما كما هي الاشجار المختطفة وشرفات المدن الساحلية العريقة في ذلك العنقود الاخضر.
ان العَبرنة التي فرضت بقوة الاحتلال الغاشم بقيت حروفا صماء على لوحات نحاسية فالمدن والشوارع والساحات والشرفات لا تغير ذاكرتها استجابة للغزاة ، وحفيف الزيتون هناك بقي وسيبقى بهذه الابجدية التي يرشح الشجن من كل حرف فيها.
ما تسعى ثقافة التدجين والتقزيم الى بثه في عصرنا الرمادي هو حذف الفارق الجوهري بين مستوطنة مدججة بالسلاح ويعصف الهلع بساكنيها وبين بيت يروي صرير ابوابه وصمت خوابيه تلك السردية الوطنية الباسلة لشعب تشبث بالذاكرة الى جانب الحلم وادرك ان احتلال الماضي هو مجرد تمهيد لاحتلال المستقبل ونحن كعرب لا نشعر على الاطلاق بان ما كان لنا اصبح علينا فأي حريق في زيتون يعبد هو جمرة في قميص القسام واي ثقب في زاوية جدار بالاقصى هو نزيف في القلب فالاحتلال لا يعني التطويب والجريمة لا تكتمل بسبب تأخر الشهود عن موعد الحضور.
لقد افسدت لعنة السياسة وبراغماتيتها ذلك الصفاء الاسطوري للسرديات الوطنية الخالدة والنشيد الوطني ليس مجرد مديح لوطن.. انه الخطوات لا الاقدام.. ونخاع الشجرة المحترقة وليس عناقيدها،،. (الدستور)