ماذا نفعل بهذه «السلطة»

ها هي واشنطن تنفض يدها من مهمة "تجميد الاستيطان" ، وتوقف جهودها الرامية استئناف المفاوضات المباشرة من دون أن تشير بإصبع الاتهام لإسرائيل بوصفها المسؤولة عن تعطيل هذه المحاولة ، بخلاف ما حدث في كامب ديفيد قبل عشرة أعوام ، عندما قامت الدنيا ولم تقعد ضد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
إنْ أخلص الرئيس محمود عباس لوعوده وتهديداته ، فإن من المفترض أن نشهد في قادمات الايام ، تنحيه عن السلطة ، أو شروعه في حلها ، لكننا على الأرجح ، سنراه يتوجه إلى "اللجنة التنفيذية" و"لجنة المتابعة العربية" اللتين ستعاوداننا بدورهما "التأكيد على قراراتهما السابقة" ، والدخول في مرحلة جديدة من "بازار المفاوضات والمساومات" ، ليبقى الحال على حاله ، فتواصل إسرائيل قضمها للأرض والحقوق ، ونواصل نحن حفلات "الزعيق والنعيق" ولطم الخدود ، وتواصل حكومة تصريف الأعمال ، بناء مؤسسات "الدولة العظمى" تحت جلد الاحتلال ، وبرغم أنفه؟،.
قادة فتح والسلطة تولوا هم أنفسهم الرد على الرئيس عباس ، منهم من قال أن دعوته لحل السلطة أخرجت من سياقها ، ومنهم من قال أنها غير مطروحة على الطاولة ، ومنهم من وصفها بـ"الخطوة الانتحارية" إلى غير ما هنالك من توصيفات تحمل في طيّاتها "رؤى" هؤلاء لمستقبل الحركة الوطنية ومصائر المشروع الوطني الفلسطيني.
على اية حال ، فإن انحباس عملية السلام ، ووصولها إلى طريق مسدود باعتراف واشنطن التي رفعت مؤخراً "الراية البيضاء" ، يملي النظر في مستقبل السلطة ووجودها ، فإن لم يكن "الحل هو الحل" ، فلا أقل من إعادة النظر في "تعريف" السلطة وتحديد وظائفها وإعادة موضعة دورها في "النظام السياسي" الفلسطيني ، بل وإعادة تحديد علاقتها مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي هذا السياق ، نقترح استراتيبجية فلسطينية جديدة ، تقوم على "تقزيم" السلطة ، أو بالأحرى إعادتها إلى حجمها الطبيعي ، وسحب صلاحياتها ، وتحويلها إلى ما يشبه الإدارة البلدية المعنية بتصريف حياة المواطنين اليومية ، والاعتناء بأمنهم ومعاشهم وتعليمهم وصحتهم وتنقلهم ، فلا حاجة بنا لوزارة خارجية ولا لوزارة داخلية ولا لأجهزة مخابرات وأمن ، كل ما نحتاجه قوة شرطية تنظم السير والمرور وتلقي القبض على السرّاق وتمنع التعديات على الممتلكات الخاصة والعامة.
وتفترض الاستراتيجية المقترحة ، إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية ، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني ، وفتح نوافذها وبوابتها لإعادة هيكلة شاملة ، بحيث تستحق اسمها ووصفها ، وضم مختلف القوى إلى صفوفها ، والتخلص من كثير من المومياءات التي تثقل حركتها ، وضرب "رؤوس الجسور" التي نجح الخصوم في بنائها داخل صفوف هيئاتها القيادية ، بما في ذلك لجنتها التنفيذية.
ولأنها الممثل الشرعي الوحيد ، فإن إعادة العلاقة بين المنظمة والشتات عبر إعادة بناء المنظمات الشعبية وتفعيل دورها ، تبدو مهمة ملحّة ومقدمة على ما عداها ، كما يجب أن ترتبط بالمنظمة دون سواها ، المسؤولية عن إدارة ملفات الأمن والمقاومة والدفاع والسياسة الخارجية وتعزيز الصمود والعلاقات الدولية والعربية ، إلى غير ما هناك من مهمات وسلطات ، تخلت المنظمة عنها طواعية ، لصالح سلطة انتقالية ، خاضعة للاحتلال ، ولا يبدو أنها تتجه لأن تصبح دولة مستقلة ومجسدة للمشروع الوطني الفلسطيني.
قد لا يكون حل السلطة مطلباً شعبياً بوجود 170 ألف موظف ، واعتماد أزيد من نصف سكان الضفة الغربية على السلطة ورواتب موظفيها وموازناتها وإنفاقها ، وإن كان هذا الأمر صحيحاً ، فإن الحاجة الماسة تقتضي ، ومن باب أضعف الإيمان ، إعادة النظر في موقع السلطة ومكانتها في الحركة الوطنية الفلسطينية ، ولا أحسب أن أحداً في العالم العربي أو المجتمع الدولي ، أو حتى إسرائيل سيقبل ترك الفلسطينيين للجوع والبطالة والعوز ، ليس حباً بالفلسطينيين أو كرمى لعيونهم ، ولكن حرصاً على أمن إسرائيل واستقرارها.
في هذا السياق ، تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين وضع الضفة الغربية وقطاع غزة ، فالسلطة في غزة يمكن أن تتعزز ، وأن تنفتح لمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني.
صحيح أن الاحتلال الإسرائيلي للقطاع لم ينته - قانونياً ورسمياً - وإسرائيل ما زالت مسؤولة عن القطاع بموجب القانون الدولي ، لكن الصحيح كذلك ، أن الاحتلال في هذه البقعة من فلسطين ، يتخذ شكل "الحصار والعدوان والعقوبات الجماعية" ، بخلاف الضفة التي تخضع فضلا عن كل هذا وذاك ، إلى الاحتلال العسكري المباشر والتوسع الاستيطان المبدد للحقوق والأراضي والمستقبل.
انتهى مشوار "دولتين لشعبين" ، وبلغت عملية السلام حائطاً مسدوداً ، ومن دون أن نواصل الكذب على أنفسنا ، يجب أن نتصرف بوحي من هذه الحقائق ، وأن نجري المراجعات المطلوبة ، وأولى هذه المراجعات تبدأ بتفعيل الشعار الوطني الناظم لحركة الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات: رفع كلفة الاحتلال ، الذي اعترف الرئيس عباس نفسه ، بأنه لم يعد مكلفاً.
وأولى موجبات هذا الشعار ومندرجاته ، تتجلى في حل السلطة أو إعادة تعريفها ، للتخلص من أعبائها من جهة ، ولتقليص الاعتمادية الفلسطينية على إسرائيل ومجتمع المانحين ، ولفتح أفق جديد لمقاومة فلسطينية رشيدة ، بعد أن ثبت بأن السلطة والمقاومة لا تجتمعان ، وأن انتزاع الحقوق الوطنية يوجب توسيع مساحة المقاومة بأشكالها المختلفة ، وتقليص مساحة السلطة بامتيازاتها وفسادها و"خرابها" ، فهل نحن فاعلون؟،.
(الدستور)