شبكات المعاني وصناعة الكراهية والتهميش

تم نشره الأربعاء 31st كانون الثّاني / يناير 2018 02:37 صباحاً
شبكات المعاني وصناعة الكراهية والتهميش
إبراهيم غرايبة

ليس التعاون والتقبل كما الإقصاء والتهميش فقط مواقف أخلاقية أو فكرية، لكنها مهارات وعمليات اجتماعية منظمة وواعية ومقصودة، وثمّة ما يدعو إلى القول إن الكراهية بين الدول والمجتمعات أو في داخل الدولة الواحدة ومجتمعاتها وطبقاتها يجري إنشاؤها وإشعالها على نحو واعٍ ومقصود، على الرغم مما في ذلك من خطورة وقسوة على مشعليها وضحاياها.. يؤشر هذا التهييج والحشد المليء بالكراهية والتحريض إلى أزمات جوهرية في السياسة، يراد إخفاؤها أو تأجيل استحقاقاتها، لكنه لا يحل الأزمات، بل يضيف إليها أخرى جديدة، ويجب القول والتذكير بأن الإرهاب ليس فقط أيديولوجيا متطرّفة، لكنه في الأساس منظومة بيئية اجتماعية وثقافية، والمتطرفون والكارهون والقتلة هم غالباً أشخاص أسوياء لم يرتكبوا جرائم جنائية، ولا يعانون من أزمات عقلية أو نفسية أو اقتصادية، لكنهم معبأون بالكراهية والشعور بالقهر والظلم والتهميش، أو، وهذا هو الأسوأ، معبأون بالاشمئزاز من آخرين وبالاستعلاء عليهم.
وفي ذلك، يجب النظر إلى السياسات والمواقف العامة والفردية التي تعكس شعوراً مبالغاً به بالصواب والأهمية والعظمة إنما تؤسس للإرهاب والكراهية، ولا حاجة إلى عمليات عنف وتفجير وقتل، لملاحظة الإرهاب الكامن في الشعور بالاستعلاء والتميز! وقد تلتبس هذه الرغبات التدميرية المكبوتة بدعاوى السلام ومكافحة الإرهاب والتطرّف، فتصير "مواجهة الإرهاب والتطرّف" إرهاباً وتطرّفاً. 
الكراهية موجودة أساساً لدى أفراد يبدون بريئين، وتحملها وتقوم عليها دول ومجتمعات تظن نفسها تفعل الصواب! فالدماغ البشري يعمل بطريقة معقدة، أكثر تعقيداً مما نتخيل وبدرجة كبيرة، وتملك عقولنا وسائل تنشأ عنها تراكيب ذهنية مفرطة، تفوق ما نحتاجه ونرغبه منها، وأفكارنا ومعتقداتنا ورموزنا وملاحظاتنا هي كقبضة من ضباب، أو هي صلبةٌ مثل حجر من الجرانيت. 
وأما بالنسبة إلى الوازع الأخلاقي؛ فإن كاثلين تايلور عالمة النفس والأعصاب بجامعة اكسفورد تصدمنا بالقول إنه ما لم تكن الأنماط القامعة نشطةً في أثناء تكوّن الحافز في مرحلة الاستعداد "التحضير"، فإن هذا الوازع لن يكون له صوت في "الأجهزة العصبية"؛ ولذلك سوف يفشل في التأثير في قرار الفعل، فالإنسان قد يملك كل ما يمكن أن يعطيه له المجتمع من تربية أخلاقية، وقد يبدي تفهماً واضحاً للمبادئ الأخلاقية الحاكمة لثقافته، وربما يتصرّف بحنان وطيبة مع من حوله. ومع ذلك، يصبح ممن يعذب الغير أو يكون قاتلاً من دون التخلي عن أخلاقياته، لكنه قد يجد من الصعب أن يعدل نفسه، ويعود إلى العيش السوي المألوف فيما بعد؛ فالتعاليم الأخلاقية لا جدوى منها، إذا لم تفعّل ويعمل بها، وتكون مشاركتها فعالة ونشطة عند اتخاذ قرار الفعل.
ولأن الأفعال المتقاربة تسببها أنماط ذهنية متداخلة، فإن التنشيط المتكرّر لفكرة إقصاء الآخر، حتى إن تم باعتدال، يطلق السلوك المتهور بشدة مفرطة، ويفسّر ذلك سبب الاستعداد السريع للمجرمين الذين تعرّضوا لإقصاء الآخر عدة سنوات، من دون ارتكابهم أعمال عنف، من أجل القتل مثل "الرجال العاديين"، ويفسر ذلك أيضاً لماذا يلجأ الناس الذين اعتادوا ثقافات العنف إلى القتل، لأسباب بسيطة وتافهة من وجهة نظرنا. إن تقبل المجتمع العنف وفكرة إقصاء الآخر هو الذي سهل التعديات المهلكة للقتلة.
"شبكات المعاني" التي تمثل نسيج كل المخلوقات البشرية هي شبكات اجتماعية ورمزية، تستمد قوتها على "تقييدنا" من حقيقة أنها جزء منا، هي ما نقول أو نفعل، والرموز التي نوقّرها، والأدوار التي نلعبها، وكلها تحدّد هويتنا باعتبارنا بشراً، فكما تحدّد أجسادنا وجودنا المادي، باعتبارنا كائنات حية مستقلة، قد توحد أحياناً بالتعاطف أو المحاكاة أو العناق الحاني، فإن معتقداتنا التي تحتل مشهدنا الإدراكي والمعرفي وطريقة إحساسنا بها تحدّدنا بصفتنا نظراء من الرأي والتفكير نفسها أو مختلفين، فتوحّدنا معاً أو تجعل كلاً منا منفرداً أو بمعزل عن الآخرين، وكلنا متحفز للدفاع عن نفسه في مجابهة التهديدات، سواء كان معنى النفس مادياً أو عملياً. لكن، بينما يكون التهديد المادي واضحاً للجميع، فإن التهديد بمعناه الرمزي موجه لنا ولكل من يعنينا أمرهم ونهتم بهم.

الغد  2018-01-31



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات