تنويعات على هامش وثائق ويكيليكس

المدينة نيوز – اخيراً - وليس آخراً - وجدت ورشة التبديل، ولا نقول التغيير، نهايتها، فيما وجدت التشكيلات الحكومية والنيابية والاعيانية مستقراتها، وأضحت امراً واقعاً لا مفر منه ولا جدال فيه•
وسواء انطوت هذه التشكيلات على الكثير او القليل من الغرائب والمفاجآت•• وسواء قوبلت بالكثير او القليل من الرضا الشعبي والارتياح العام، فلم تعد عملية اخراجها وانتاجها بالامر المهم بعد ان باتت وراء الظهر، بل المهم الآن هو دورها المقبل في التعامل مع التحديات الداخلية، والاستحقاقات الخارجية•
وليس من شك ان الدور المستقبلي لهذه التشكيلات المركزية سوف يكشف مبررات وجودها الحقيقي، واسباب انتاجها على هذا النحو، والاهداف المتوخاة منها على الصعيد العملي، وليس الكلامي والاعلامي، خصوصاً بعد ان اتسعت شقة المفارقة، ومساحة المباعدة في المعادلة الرسمية، بين الاداء والانشاء، او بين الاقوال والافعال، ففيما نقرأ او نسمع خطاباً رسمياً طموحاً وحافلاً بأدبيات الاصلاح والانفتاح، نلمس على ارض الواقع مسالك وترتيبات واجراءات مضادة بالمطلق، ومعاكسة على طول الخط، ومتناغمة مع الاجندات الخارجية وليس الداخلية•
لقد حفل الخطاب الرسمي مؤخراً بالكثير من مفردات التمويه، وتحول الى ما يشبه "مصائد المغفلين "، او ذر الرماد في العيون، سنداً لما يحمل من معسول الكلام، ومحمود البشائر والوعود التي لا تمتلك ادنى رصيد فعلي، ولا تصمد طويلاً في امتحان التجربة الواقعية، ولا تتم ترجمتها الى خطط وبرامج ومشاريع قابلة للتطبيق والتحقيق•• فاللغة في واد، بينما الممارسة في واد آخر•
منذ بضع سنوات، اعتدنا ان نسمع جعجعة ولا نرى طحناً، وكلما ارتفع منسوب الجعجعة في الخطاب الرسمي انخفض مستوى الطحن والطحانين، وجرى تسليم المكان المناسب للرجل غير المناسب، واتخذ التزوير والتدليس اسم النزاهة والشفافية، وازداد عجز الحكومات والبرلمانات عن التصدي للتحديات، وانقلبت مسيرة البلاد والعباد من التقدم الى التقهقر، ومن التنمية الى المديونية، ومن الوفر الى الفقر والبطالة والغلاء وشد الاحزمة على بطون الناس•
لا تناسب او تناسق البتة بين العناوين والمضامين، او الشعارات والتطبيقات، او بين خطاب "التكليف " الذي غالباً ما يأتي قوياً وشمولياً، وبين وقائع "التشكيل " التي غالباً ما تخرج هزيلة ومغايرة وباعثة على الاستغراب والاستهجان•• وهو الامر الذي دفع المراقبين والمحللين الى استحضار قراءات جديدة، او ترجمات استثنائية لغرض تفسير هذه الظاهرة السياسية الغريبة والمتكررة، وسبر اغوارها وكشف المخفي من اسرارها، والغامض من اهدافها وابعادها ودواعيها•
لقد بات واضحاً وضوح الشمس اتساع مساحة الازدواجية والباطنية والاجندات السرية في السياسات العربية عموماً، واتقان فن التظاهر بالخير والوطنية والقومية فيما العمل تحت الطاولة خلاف ذلك بالمطلق، ولعل ما كشفته وثائق ويكيليكس مؤخراً من تبعية رسمية عربية لواشنطن، وتعامل خفي مع اسرائيل وتواطؤ مشين ضد ايران وحماس وحزب الله، يؤكد فداحة نهج الباطنية والازدواجية والتكاذب لدى معظم دول الاعتدال العربي التي امطرتها هذه الوثائق بفضائح سياسية واخلاقية من العيار الثقيل•
ولو كانت هذه السياسات الباطنية المخاتلة مقتصرة على البعد الخارجي، ومتعلقة بالتعامل مع الدول الاخرى، لهان الامر وصغرت المصيبة، ولكنها سياسات شاملة ومتمادية ومتّبعة ايضاً على الصعيد الداخلي، وفيما بين الشعوب العربية وبين انظمتها وحكوماتها التي ما عادت تتورع عن خداع شعوبها، وايهامها بالعمل لصالحها والقيام على خدمتها، فيما هي مغرقة في التبعية والتذيل للدوائر الامريكية واليهودية والماسونية، ومنهمكة في تنفيذ مشاريع ومخططات تآمرية معادية للصالح العربي العام، ومكرسة لحساب هذه الدوائر المهيمنة والمتنفذة•
منذ مطالع هذا القرن، تحولت معظم حلقات النظام العربي الى توابع للعواصم الامبريالية والصهيونية، واستمرأت الدوران في فلكها والتحطيب في حبالها، واسقطت واجباتها الوطنية وادارت ظهرها للجماهير الشعبية، ودفعت بالتفهاء والعملاء والاجراء لتسلم مواقع المسؤولية، فيما شنت حرباً ضارية على الاحرار والشرفاء والمخلصين من ابناء الامة، واضطرتهم تحت وطأة الترهيب والتجويع الى الانزواء والتهميش وفقدان الفاعلية والحضور والتأثير•
كل القوى العربية الشريفة والنظيفة اصبحت على الهامش، وخارج دوائر الفعل والتأثير، بينما تربعت على ارائك الحكم والسلطة قوى مغتربة وادوات مشبوهة ما انزل الله والشعب بها من سلطان، بل جاءت بها ايادي "العرابين " الاجانب الذين يتولون هندسة الاوضاع العربية، وفقاً للرغبات والمخططات الصهيونية والصليبية المكرسة لقتل الروح النضالية، ومحاربة القومية العربية، وتجويع الجماهير الشعبية، وتقويض الوحدات الوطنية والجبهات الداخلية، ونشر قيم الفساد والاستبداد والتخريب والجاسوسية والاستسلام والانهزام واللاابالية والاباحية السياسية•
انظروا اين اصبحت دول العالم الثالث (سابقاً) المحكومة من قبل المخلصين من ابنائها مثل الهند والصين واندونيسيا وماليزيا وفنزويلا والبرازيل وبوليفيا وتركيا وايران•• انظروا كيف تتقدم هذه الدول في سائر المجالات السياسية والاقتصادية والتقنية يوماً بعد يوم•• انظروا كيف تدفع شعوبها نحو الرقي والعطاء والمشاركة، فيما تتخير للمناصب اصحاب افضل الكفاءات والخبرات والولاءات الوطنية•• انظروا كيف تبحث لنفسها عن مكان تحت الشمس ودور في هذا العالم على قاعدة التكافؤ والمناددة والاحترام المتبادل مع الدول والقوى الاخرى•
وبالمقابل، انظروا اين اصبحت الامة العربية بسائر دولها ودويلاتها ومشيخاتها بعد ان تسلط على معظمها حكام ومسؤولون مفصّلون على المقاس الامريكي، ومنهمكون في خدمة المشروع الصهيوني، ومبرأون من الاخلاص للوطن والامة، ومتناحرون ضد بعضهم بعضاً حد الاستقواء بالغريب على القريب وبالعدو على الشقيق•• ولعل في الحالة المصرية الراهنة اوضح شاهد ودليل ومثال، ليس على الهوان المصري فحسب، بل ايضاً على البؤس العربي بشكل عام•
قبل اقل من ثلث قرن، كانت مصر قوة اقليمية كبرى وقائدة مرموقة لكل العرب•• كانت تقف على قدم المساواة سياسياً واقتصادياً وعلمياً مع الهند والصين•• كانت تتقدم في سائر المجالات الحياتية على معظم دول امريكا اللاتينية•• فلماذا تخلفت عن الركب وتقهقرت الى الخلف ؟؟ لماذا فقدت دورها الاقليمي والعالمي وباتت "ملطشة " تتمرجل عليها دول تافهة من وزن اثيوبيا واخواتها في حوض نهر النيل ؟؟
لعل الاجابة ليست موجودة فقط في القاهرة، بل في سائر العواصم العربية التي ابتليت بقيادات عربية اللسان والبيان، ولكنها امريكية الضمير والوجدان•• واقرأوا بعيون مفتوحة وعدسات مكبرّة وثائق ويكيليكس الاخيرة! .