واشنطن: من حل الأزمة إلى إدارتها

لن تترك واشنطن المنطقة نهباً للفراغ ، حتى وهي في ذورة الاعتراف الصريح بفشلها ، ذلك أن فراغاً مغرياً كهذا من شأنه أن يجذب أطرافا إقليمية ودولية إلى واحدة من أهم الساحات وأكثرها حيوية في حسابات الأمن والاقتصاد والمال والطاقة الأمريكية ، ولهذا السبب بالذات ، ستنتقل واشنطن بعد فترة وجيزة من إعادة التقييم والتقويم ، إلى أسلوب "إدارة الأزمة" بعد أن تعذّر حلها ، أو بالأحرى بعد أن فشلت في حلّها.
بهذا المعنى ، فإن واشنطن ستبقي العرب والفلسطينيين ، المجردين من كل خيار وورقة قوة ، معلقين في "حبال أوهامها" ، وها هو أول غيث التهافت العربي ينطلق على شكل نصائح من القاهرة للرئيس عباس: أن تريث لا تستعجل البحث عن خيارات وبدائل أخرى ، فالإدارة الأمريكية تستحق فرصاً إضافية كلما أهدرت المزيد من الفرص ، والمفاوضات في ظل الاستيطان ، أفضل من الاستيطان بلا مفاوضات ، والسبب وفقاً لـ"عباقرة" الدبلوماسية المصرية ، أن الاستيطان مستمر في كل الأحوال ، ومن الأفضل أن نتدارك ما يمكن تداركه ، وتلقف ما تلقي لنا إسرائيل به ، من بقايا الأرض الحقوق وفتات الكرامة ، في أبشع تعبير عن العجز والهزيمة والتخاذل.
عباس يذهب إلى لجنة المتابعة العربية في القاهرة كلما احتاج غطاء ومظلة أو سلم يهبط به عن قمة الشجرة ، وكلما احتاج إلى شبكة أمان يلوذ بها ، قبل أن تفضي "الهرولة السريعة" إلى كسر عنقه أو ذراعه ، ودائما تستجيب هذه اللجنة لطلباته ، لكأنها مصممة على مقاس "التخاذل العربي" ، بعد أن تحوّلت إلى "دار إفتاء" تمنح المهل والصكوك والفتاوى التي تذهب جميعها في اتجاه واحد: التساوق مع واشنطن ، والسير حتى نهاية شوط التفريط والتنازل ، برغم الضجيج اللفظي - الفوق ثوري - المصاحب لاجتماعاتها والصادر عن "معالي الأمين العام".
ستقوم واشنطن بإعداد خطط بديلة لما جاء به ميتشيل ، وربما يخرج "ساحر الحل الإيرلندي" من الحلبة نهائياً ، لتأتينا رموز جديدة ، أو رموز قديمة بتفويض جديد ومهمة جديدة ، وسنشرع في استقبال الموفدين والمبعوثين ، وسيطل علينا بعض "كتاب الهزيمة" بنصائحهم و"كتبهم المفتوحة" للرئيس عباس ، لا تتهور ولا تنتحر سياسياً ، واصبر على أوباما ومن سيأتي بعد ، حتى تضيع الأرض والحقوق ، قطعة تلو الأخرى ، وبمباركة منا وحراسة مشددة للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي ، وبغطاء منّا وتسهيل ، تجعل الاحتلال مجانيّاً وبلا أي كلفة من أي نوع ، ودائما تحت شعار "التنسيق الأمني" و"بناء الدولة تحت الاحتلال".
ها هي واشنطن تغلق فصلاً من فصول انفرادها وتفردها ، وها هي أوروبا تصل للحظة الحقيقة والاستحقاق. لقد قالوا لنا أننا لا نريد أن "نعطّل" على ميتشيل أو أن "نشوش" على مهمته ، ها هو الرجل ينسحب من التداول ، وها هي المهمة تبلغ طريقاً مسدوداً فماذا أنتم فاعلون ، وما تنتظرون ، هل نتوقع مبادرة أوروبية أصيلة ، أم هي أوروبا نفسها ، تقوم بدول "الدوبلير" كما في لغة السينما ، إلى حين يستعيد الممثل الأصيل دوره ويسترد ألقه.
وقبل أن نسأل ماذا سيفعل الأخرون ، علينا أن نسأل ماذا سنفعل نحن. هل سيفعّل الرئيس خياراته السبع ، هل هي خيارات أصلاً ، هل يمكن التعويل عليها إن نجحت أو فشلت ، هل يمكن أن تحدث استدارة في حياة الفلسطينيين وكفاحهم في سبيل الحرية والاستقلال ، ألم يحن الأوان للتفكير بخيارات وبدائل أخرى. هل آن الأوان للتخلص من "العقد والحسابات الشخصية" و"الأنا المتضخمة" والتواضع أمام مطلب الشعب الفلسطيني باستعادة الوحدة الوطنية اليوم وليس غداً ، ومن دون إبطاء؟.
نحن لا نفهم كيف تذهب بنا الخيارات والبدائل في كل اتجاه ، وصولا للأرجنتين وتشيلي ، ولا نقوى على الوصول إلى دمشق ، لمحاورة قادة حماس ، أو إلى غزة لرفع الحصار عن شعبنا المحاصر هناك. لا أدري كيف تشمل مروحة اتصالاتنا ومشاوراتنا العالم بأسره ، ونترك أهم ملف في يد نفر من الشخصيات الفلسطينية ، يرتفع منسوب "الولدنة" لديها على منسوب المسؤولية الوطنية والتاريخية. لا أدري إلى متى سنظل نصغي لكل الذين يعيشون هواجس الحركات الإسلامية والإخوانية في بلدانهم ، ويريدون للسلطة الفلسطينية أن تكون ذراعاً رديفاً في حربهم على معارضاتهم الإسلامية ، ورأس حربة في مشاريع الوارثة والخلافة والتمديد والتجديد.
ها هو "درب الأوهام" يصل إلى نهايته ، ولم يعد أمامنا سوى واحد من خيارين: إما اليقظة والانتباه لما يحاك لنا ويجري حولنا ، وإما المضي في درب الهاوية الذي لا مستقر له ، ولا ضوء في نهاية نفقه المظلم الطويل. إما استئناف الحركة الوطنية واستهاض الشعب من جديد ، وإما الاستمرار في اللهاث خلف قيادات خائبة ، ومسؤولين مرعوبين ، قالت فيهم "ويكيليكس" ما لم يقله مالك في الخمر ، إنها لحظة الحقيقة والاستحقاق ، إنها لحظة تاريخية والتاريخ لا يرحم من يتخلف عن دربه أو يبدد فرصه أو يجري بعكس منطقه واتجاهات هبوب رياحه. (الدستور)