ثرثرة على ضفاف البلطيق

أتيح لكاتب هذه السطور أن يتجاذب أطراف الحديث مع الرئيس الفنلندي السابق 1996( - )2000 مارتي أهتيساري في واحد من القصور التاريخية المكسوة بالثلوج ، والتي تحوّلت إلى فندق يستقبل السائحين والمؤتمرين على مبعدة 120 كليومترا شمال العاصمة هيلسنكي ، وما أن تذكرت بأن الرجل كان مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة إلى كوسوفو ، وأنه من "حملة نوبل" لمجمل جهوده لحل النزاعات الدولية ونشر السلم العالمي ، حتى بادرته بالسؤال الذي رافقني في حواراتي السابقة مع الأصدقاء الكوسوفيين ، في عمان وبريشتينا: ما الذي جعل استقلال كوسوفو ممكناً ، وما الذي يحول دون استقلال فلسطين؟...لماذا تستقل كوسوفو وتتخلص من الاحتلال الصربي ، ويتوالى الاعتراف العالمي بها ، في الوقت الذي يتأبّد فيه احتلال إسرائيل لفلسطين وتنتشر مستعمراتها ، ويزداد مستوطنوها شراسة وعنصرية ؟،.
لم يُطًل الرجل الشرح والحديث ، ولم يظهر عليه أنه تفاجأ بالسؤال ، بل شعرت أنه ربما تعرض له عشرات المرات من قبل ، أقله منذ أن بدأت "مبادرة إدارة الأزمات" التي أسسها عام 2000 ، العمل في فلسطين والشرق الأوسط ، قال حرفياً وبسرعة: الولايات المتحدة كانت مؤيدة لاستقلال كوسوفو ، أما الحال في فلسطين ، فليس كذلك تماماً؟.
هل يمكن للولايات المتحدة أن تصبح ذات يوم مؤيدة لاستقلال فلسطين حتى نلحق بركب كوسوفو ، أحدث دولة في العالم نالت استقلالها؟...وهل نتفاءل بقول المسؤولين الأمريكيين المتكرر بأن قيام دولة فلسطينية في سياق "حل دولتين لشعبين" ، هو مصلحة أمريكية؟...هل تعمل واشنطن بوحي من مصلحتها هذه ، عن أي دولة واستقلال يتحدثون ، عن أي فلسطين تتحدث الإدارة في واشنطن؟
لا شك لدي أن إدارة الرئيس أوباما الحالية ، وربما إدارتي الرئيس كلينتون وجورج بوش السابقتين ، كانت ترغب بحل القضية الفلسطينية ، وعلى قاعدة "دولتين لشعبين" ، فالرئيس كلينتون هو أكثر رئيس أمريكي استثمر من الوقت والجهد لحل القضية ، وجورج بوش كان يريدها لخدمة استراتيجيّاته في المنطقة ، وهو أول من اعترف بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة ، والرئيس أوباما كان راغباً حقاً في أن يرتبط قيام الدولة الفلسطينية باسمه شخصياً ، ثلاثتهم حاولوا ، ومحاولات ثلاثتهم ، انتهت إلى طريق مسدود ، ولعل إعلان واشنطن أمس ، "تجميد سعيها لتجميد الاستيطان" هي آخر فصول الفشل الأمريكي على هذا الصعيد.
كان الفلسطينيون ليقيمون تمثالاً لأوباما في قلب ساحة المنارة أو دوار الساعة في رام الله لو أنه نجح في نقل الدولة الفلسطيينة من "الفكرة إلى الرقعة" وفقاً لتعبير الراحل محمود درويش ، تماما مثلما أطلق الكوسوفيون اسم كلينتون على أحد ميادين بريشتينا ، وزيّنوه بصورة ضخمة للرئيس الأمريكي الأسبق ، لكن الفلسطينيين من أسف ، غارقون في بحر من الإحباط واليأس والإحساس بالتخلي ، وهم أبداً ليسوا بوارد فعل ذلك ، لا الآن ، ولا في المستقبل المنظور على ما يتبدى لي.
كيف نجعل واشنطن تؤمن بالاستقلال الفلسطيني وتعمل من أجله بكل همة وجدية ، كما فعلت في البلقان ، سؤال لم أجرؤ على طرحه على أهتيساري ، لكن الرجل فاجأني بأنه ينوي طرحه على "زميله في نادي نوبل للسلام" باراك أوباما عندما سيتلقيه قريبا في سياق السعي لحل نزاع الشرق الأوسط.
كيف نجعل واشنطن تؤمن بالاستقلال الفلسطيني ، سؤال يتعين علينا نحن ، قبل الرجل ، الإجابة عليه ، ولقد فعلنا ذلك مراراً وتكراراً ، ولكن المسافة بين ما يجب عمله وما يُعمل فعلاً ، تتسع في كل مرة نطرح فيها هكذا سؤال.
والخلاصة ، حتى لا نثقل كاهل القارئ العزيز في مقارنات ومقاربات بين كوسوفو وفلسطين ، تقول: أن جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن فلسطين لن يكون ممكناً من دون أن تصبح كلفة بقائه واستمراره أعلى بكثير من عوائده ، وأن واشنطن لن تقتنع بأهمية وجدوى استقلال فلسطين ، قبل أن تدرك بأن كلفة انحيازها لإسرائيل ، أعلى بكثير من كلفة وقوفها على مسافة واحدة من مختلف فرقاء الصراع.
ولكي يحدث هذا وذاك ، لا بد أولا: من استراتيجية فلسطينية بديلة عنوانها الرئيس ، رفع كلفة الاحتلال التي قال الرئيس عباس نفسه عنه أنه لم يعد مكلفاً...ولا بد ثانياً من استراتيجية عربية بديلة ترفع كلفة الانحياز الأمريكي الأعمى لإسرائيل ، ومن دون هذه وتلك ، لن يتوفر لأهتيساري ما يشجعه على القيام بوساطة ناجحة كتلك التي أنهت النزاع باهظ الكلفة بين إقليم إتشيه الانفصالي وحكومة جاكرتا المركزية.
وأصدقكم القول ، أن ما ذهبت إليه في هذا المقال ، هو ملخص لمضمون ورقة أعددت خطوطها العريضة ، لتقديمها إلى ندوة كانت مقررة قبل عدة أشهر في العاصمة الكوسوفوية تحت عنوان "كوسوفو وفلسطين" ، لكن الندوة تأجلت لأسباب فلسطينية ، وليس لأسباب كوسوفية.
ومع ذلك فإن مرور الوقت ، لم يبدد صحة أفكار الورقة ، وفرصة اللقاء مع أهتيساري ، شجعتني على معاودة إثارة الأسئلة القديمة بحلة جديدة ، وسياق جديد.
وأصدقكم القول ثانياً ، أن مصدر إعجابي بالرئيس أهتيساري ، لا يقتصر على جهوده الدولية لحل النزاعات وحقن الدماء ، وحصوله على جائزة نوبل واستمراره بالعمل بحيوية وهو في منتصف العقد الثامن من حياته ، فهذه كلها أسباب مثيرة للإعجاب حقاً ، لكنني أيضاً ، وزملائي من الفلسطينيين ، دهشنا برئيس دولة يأتي فوق الثلوج ، قاطعاً مسافة 120 كليومترا ، للحديث عن المصالحة بين فتح وحماس ، ومن دون أن يكون برفقته غير سائقه ، وقد دفعتنا هذه الصورة للتذاكر في أعداد السيارات التي تتكون منها مواكب "أبو الغضب" و"أبو الجماجم" ، خصوصا القادة الأمنيين المهزومين سواء في المواجهات مع إسرائيل أو مع حماس ، وكل مصالحة وأنتم بخير. (الدستور)