الديمقراطية الصوتية!

الديمقراطية الصوتية!! * خيري منصور
للبدوي الجارح عبدالله القصيمي سلسلة كتب ذات عناوين صاخبة منها صحراء بلا أبعاد وكبرياء التاريخ في مأزق وعاشق لعار التاريخ ، لكن العبارة التي يتداولها الكثيرون وهي العرب ظاهرة صوتية نادرا ما ينسبونها الى صاحبها شأن كل شيء في عالمنا المستباح حيث كل ما في هذا العالم يمكن اختطافه.
ما أعنيه بالديمقراطية الصوتية أو ديمقراطية المايكروفون ، هو تلك الحفلات التنكرية التي نتبادل فيها الادوار من خلال الاقنعة ، فثمة نعجة تصهل وفأر لا يكف عن الزئير مقابل أسد يثغو وفهد يموء.
ان الديمقراطية الصوتية هي البديل الاعلامي والصناعي لأي حراك فاعل ، فهي منزوعة الدسم السياسي أولا ، وممنوعة من الصرف ثانيا ، وصالحة فقط للعرض أو التقاط الصور.
فعالمنا هذا سرقت أهم منجزات تاريخه البشري بدءا من الحرية ، وعقدت فيه مقايضة غير مكتوبة تقول دعني أفعل ما اشاء وسأدعك تقول ما تريد.. لهذا لن يلتقي هذان المستقيمان المتوازيان في فيزياء السياسة ، الا اذا قيض لنا آينشتاين جديد بنسبية انقلابية ، كأن تكون حركة تصحيحية قام بها آينشتاين جديد ضد نفسه وضد فلسفة المتوازيات والنسب.
ان الكلام حتى في حالة اطلاقه والسماح له بالذهاب بعيدا يشكل ما يشبه الاشباع الكاذب وهو عادة علنية مسموح بها.
وهذه مناسبة لكي نحسد ولا نغبط فقط من لم يقرأوا من التاريخ غير حكاياته المسلية ، بحيث صدقوا ان فرنسا احتلت الجزائر بسبب ضربة من مروحة ورقية أو ان حرب السبعين الاوروبية كانت لأسباب غرامية أو ان نابليون فعل كل ما فعله من الصولجان حتى المنفى في سانت هميلان ارضاء للسيدة جوزفين ، ومن قرأوا التاريخ من هذا الباب يستحقون ان نحسدهم لأنهم لا يعرفون كيف تشكل الماء أو لماذا استعمرت بلجيكا الكونغو وهي تعادل سبعين ضعفا منها؟.
ولا يعرفون ان مستعمرات بريطانيا الامبراطورة كان سكانها قادرين على جر الجزر البريطانية الى محيط آخر لو كانوا نملا أو صراصير، وهذه العبارة لحكيم آسيوي أفعمت القارة العجوز روحه بالأسى،.
وهناك مثل شعبي رغم بساطته الظاهرة الا انه يختصر مجلدات من الثرثرة هو التغميس خارج الصحن ، فمن يفعلون ذلك هم نوعان من العميان ، عميان بصر وصفهم طه حسين في كتابه الأيام وعميان بصيرة يبحثون عمن يصفهم في ايامنا،.
ما جدوى كل ما قرأنا اذا كان مجرد قبعة أو معطف يرتدى ويخلع وقت الحاجة؟ وما جدوى هذه المقارنات المملة بين ثقافات وشعوب اذا كان الأفق مسدودا والتحليق غير مسموح به الا اذا كان على ارتفاع متر واحد؟.
لقد سبقنا جميعا ذلك البدوي الجارح الذي بدأ غضبه من سؤال عن ضمير الكون الغائب وانتهى الى عشق لعار التاريخ ، فهو الذي سمانا كعرب ظاهرة صوتية لأننا نستعيض عن أي فعل بالكلام عنه ، ولأننا جعلنا من اللغة غابات تعج بالكائنات وصدقنا ان ما قاله أبوتمام عن معركة عمورية والمعتصم وهو السيف أصدق إنباء من الكتب يصلح لكل العصور.
فلا ندري الآن أيهما أصدق من الآخر.. السيف الذي صدأ في غمده أم الكلام الذي نزعت منه المفاعيل كلها؟.
فاللحظة غروبية بامتياز ، غابت فيها الشمس ولم يظهر القمر بعد،،. (الدستور)