عمر الولدنة الذهبي

من يمتلك الصلابة ورباطة الجأش كي يكبح جماح جيشانه العاطفي وفورانه الوجداني، وربما انهمار دموعه عند الاستماع إلى رائعة فيروز الخالدة من تأليف الأخوين رحباني "يا داره دوري فينا"، وهي تحرض الحبيب بشقاوة وخفر على مراوغة درب الأعمار والاختباء منه كي يسهو عنهما؟ وتقدم له حلولا سحرية يواجهان بها أسئلة من نوع؛ أين كنتما؟ ولماذا لم تكبرا؟، وفي بلوغ الذروة الشعرية والجمال يأتي الجواب العبقري والبسيط (نسينا! واللي نادى الناس تايكبروا الناس راح ونسي ينادينا !!!) من له القدرة على التماسك في مواجهة كلمات كهذه، لاسيما إذا باغتته موسيقاها المشيدة على سلم الفرح، وهو في طريقه إلى العمل صبيحة يوم عماني ماطر طال انتظاره بعد انحباس، تمكن من الأرواح وأوهن النفوس، وجعلها أكثر جفافا من مخيلة يائس أعلن خصاما أبديا مع الحياة!.
ومن يملك في السياق الجمالي ذاته مجادلة وديع الصافي، حين يتغزل متحسرا ومتأسيا ومغمورا بالحنين إلى عمر الولدنة الذهبي، ردد الصافي هذا المعنى في اسكتش غنائي بديع افتتحه بأغنية شاب الهوى وشبنا، وأبدع الرحابنة والصافي في تلك اللوحة، من حيث الصوت والكلمة واللحن والاستعراض الراقص، الذي يؤديه ثلة من الكهول المتصابين، يتذمرون خلال حوارية غنائية طريفة من أوجاع الشيخوخة ومتاعبها، ويؤكدون مستسلمين أن العمر(الو حق)، وسرعان ما يتنصلون من تلك التصريحات، ويتبارون في ادعاء مظاهر الفتوة والشباب، من القدرة على الرقص في حلقة الدبكة لمدة ثلاث ساعات، والتهام ثلاثة صحون وحمل الأثقال وصيد الحساسين! تنجم كل تلك الافتراءات والخفة التي تعتري أرواحهم حال إطلالة سرب الصبايا الجميلات، ليختتم وديع المشهد مغنيا (ياست عشر سني يا عمر الولدنة يا مين يرجعني زغير وياخد مالك يا دني، ارجع أكبر على الهدا ويابا اوف!).
تلمس أغان كهذه أرواحنا المصابة بالشغف إلى الحياة والأسى على ما فات منها، والتوق إلى ما تخفيه في جعبتها من وعود بالفرح، تلمسها بسهولة ويسر، لأنها تختصر هواجسنا وتعبر عنها جماليا، فتبدو أقل وطأة وأكثر رومانسية. وتمنح الواحد منا فرصة التخفف منها بحجة الدندنة!.
نحاول تقبل حقيقة مرور العمر السريع الخاطف من باب أن لا مفر، وهو يمضي بنا جميعا من دون تسجيل حالة نجاة واحدة كما اقترحت الأغنية الفيروزية العتيقة، وكذلك من دون إمكانية قطع تذكرة عودة ثانية، حتى لو كان ذلك مقابل مال الدنيا بأسرها، كما تمنى الصافي لتلك الرحلة الحتمية الذاهبة في اتجاه واحد لا رجعة فيه. صحيح أنها فكرة موحشة من حيث المبدأ غير أن طرائق التعاطي معها تختلف من فرد لآخر، بحسب اختلاف الحساسيات، هنالك من يبالغ في الرفض والأسى والتفجع، وثمة من يعقل الفكرة على قسوتها ويخضعها للمنطق العلمي الواقعي البارد والمريح، هؤلاء العقلاء لا يطرحون أسئلة طفولية غبية حول ماهية الوجود وجدوى الأشياء، يتركون مثل ذلك الترف للمجانين المصابين بلوثة الإبداع، الذين يبحثون دوما عن ذرائع إضافية للشقاء!.
وتظل هناك أغنية لا تقل خطورة، تنتمي إلى الموروث الشعبي تختصر الحكاية كلها بهذا المقطع الذكي (شبابي قوموا إلعبوا والموت ما عنو والعمر شبه القمر ما ينشبع منه) وأنا أشهد!!. (الغد)