حرب أفكار أمريكية بتمويل عربي

من وثائق ويكيليكس اللافتة للانتباه ، ذلك التقرير الذي بعثه القنصل الأمريكي في جدة (أيار )2009 حول تأثير البرامج الأمريكية التي تبثها مترجمة قناة إم بي سي 4 على الشباب السعودي ، وبالضرورة على الشباب العربي أيضا ، حيث استند التقرير إلى معلومات من مخبرين كما قال.
بحسب ترجمة القدس العربي ، يقول التقرير إن القنوات الفضائية التي تعرض برامج ومسلسلات درامية أمريكية من مثل "نساء يائسات" ، وبرنامج "ليت شو ويذ ديفيد ليترمان" ، و"فريندز" تؤثر على الشبان السعوديين وتقنعهم بالتخلي عن العنف أكثر من ملايين الدولارات التي تنفقها أمريكا في مجال الدبلوماسية العامة.
ويقول التقرير إن البرامج الأمريكية لا تتعرض للرقابة لانها تنقل عبر الفضائيات وبترجمة عربية ، مشيرا إلى أن السماح بها يأتي جزء من "حرب الأفكار" ضد العناصر المتشددة ، وأنها تركت تأثيرا أكثر من قناة "الحرة" التي أنفقت عليها أمريكا مبالغ طائلة.
لا جديد في التقرير المذكور ، فما فيه معلوم للعارفين بالشأن الإعلامي ، وقد كتبنا عن هذه القضية غير مرة ، لكننا هنا إزاء شهادة مهمة لا يصح تجاوزها ، فهي شهادة أمريكية للقنوات والمحطات إياها تؤكد حجم الدور الذي تضطلع به في مواجهة الأفكار المتشددة كما يسمونها.
لا حاجة إلى التذكير بأننا ضد العنف والأفكار المتشددة إذا كان المعنى والمضمون صحيحين بالفعل ، لكن جوهر ما تبثه القنوات إياها لا صلة له بالمضمون المشار إليه ، إذ أنها تشن حربا على الكثير من القيم والمعاني الإسلامية (الوسطية والمعتدلة) ، ليس فيما خصّ القضايا الاجتماعية والأخلاقية فقط ، بل فيما خصّ القضايا السياسة والاقتصادية أيضا.
اجتماعيا ، تبث تلك القنوات سائر القيم غير الإسلامية ، بخاصة فيما يتصل بالأسرة والعلاقات الجنسية ، أما سياسيا فهي تستهدف دائما الظاهرة الإسلامية بتجلياتها الإيجابية ، كما تستهدف المقاومة وفكرها وبرنامجها ، فضلا عن ترويجها للمواقف الأمريكية فيما خصّ صراعات المنطقة والعالم. وفي الإطار الاقتصادي تتبنى الرؤية الغربية بالكامل أيضا.
لا ننسى دور تلك المحطات في الداخل السعودي على وجه التحديد ، فهي تبث كل ما له علاقة بالعلمنة والتغريب ، وتدخل في معارك متوالية مع الظاهرة الدينية بطبعتها السلفية التقليدية ، وتستخدم كمخلب قط على هذا الصعيد ، بل إنها تتجاوز في حربها الطرح السلفي المتشدد إلى الكثير من المظاهر الاسلامية التي تحظى بما يشبه الإجماع في المجتمع السعودي. وبالمناسبة فهي تتبنى الرؤية الغربية في القضايا المشار إليها ، لكنها تتجاهلها في قضايا الحريات والديمقراطية والإصلاح.
والحق أن مجموعة الإم بي سي ومجموعة روتانا اللتين أشار إليهما التقرير هما من المجموعات الفضائية الأكثر تأثيرا في الشارع العربي (تتفوق عليها الجزيرة في الأخبار والشأن السياسي ، وربما الأطفال مؤخرا) ، سواء تلك التي تبث البرامج العربية (إم بي سي 1 ومجموعة روتانا) ، أم تلك التي تبث البرامج المترجمة مثل إم بي سي 2 و4 ، و3 للأطفال ، وماكس ، ولا تسأل عن "العربية" في الشق السياسي والإخباري.
من المؤكد أن قناة الحرة لا تدخل في مقارنة مع تلك المحطات من قريب أو بعيد ، فهي هامشية التأثير ، بل أكثر من هامشية ، والسبب أن الرفض الشعبي لها جاء من هويتها الأمريكية المفضوحة ، ومن الهدف السياسي الذي انطلقت من أجله ، أما المحطات إياها فهي عربية ولا يجد المشاهد العربي أي أزمة نفسية في التعامل معها.
هي إذن خدمة مجانية للولايات المتحدة ، تمولها الجيوب العربية ، مع أن بعض تلك المحطات تحقق عوائد ربحية من الإعلان ، وإن بدا أن جزء من ذلك الإعلان يأتي بما يشبه القرار السياسي. ولذلك كله سيكون من الطبيعي أن يشيد بها القنصل الأمريكي في جدة ، بل أن يشيد بها سفراء كثر في سائر أنحاء الوطن العربي نظرا لتجاوز تأثيرها المملكة إلى العالم العربي برمته ، مع الأسف الشديد بالطبع. (الدستور)