فلسطين بين العولمة والاقلمة

لم تكن فلسطين ذات يوم رهينة مساحتها الجغرافية وطالما تمددت او انحسرت تبعا لبعدين اساسيين في تكوينها هما التعريب والاسلمة لهذا لم تكن الحروب التي خيضت فيها او من اجلها محلية خالصة وهي من بين القضايا النادرة في التاريخ التي اتاحت لكل عربي ومسلم ان يعثر على نصيبه في الكفاح من اجلها ولعل المثال الايوبي لا يزال ساطعا في العديد من القلاع التي كانت بشكل او بآخر ذات صلة ببيت المقدس.
وقد يبدو اوسلو وملحقاته محاولة لاعادة فلسطين الى غمدها الصخري جغرافيا لكن سرعان ما انتهت المحاولة بالاخفاق ولم يكن موت اوسلو بسبب ما اطلقته عليه الدولة العبرية من نيران فقط ، بل لانه محاولة للسباحة ضد تيار التاريخ او محاولة لاجراء جراحة غليظة للذاكرة والقومية بحيث تهجع فلسطين بكل مقدساتها في زاوية مظلمة،
ان ما يجري الآن من خلال الاقتراب على اختلاف صيغة من ايران وتركيا للصراع العربي الصهيوني هو بعد ثالث للتعريب والاسلمة انه ما يمكن تسميته اقلمة القضية مقابل محاولات التدويل التي تحول فلسطين الى سوق سياسية سوداء يجري كل طرف دولي مهاراته فيها بحثا عن ربح ما ، سواء أكان اقتصاديا ام سياسيا ام حتى تبشيريا.
منذ سبعة عشر عاما وهي عمر اوسلو الذي شاخ وتدهور وهو يحبو وكل ما يحدث في فلسطين او حولها بقول بان اي حلم للاستقالة القومية من هذا الصراع محكوم عليه بالفشل مرتين مرة في فلسطين ذاتها ومرة اخرى في السياق المحلي لمن يجربون مثل هذه الاستقالة التي جعلت الاقطار العربية تتنافس في العقد الماضي على اعتبار كل بلد نفسه "اولا" الا ان هذه القضية بقيت رغم المنافسات في مكانها ليس فقط بسبب مركزيتها بل لانها تختبر منسوب ما تبقى للعرب من امن قومي ومن ذاكرة ثقافية واخيرا ما لم يبلغه الدمار بعد من الوجدان التاريخي.
ما من بلد عربي سلًم حتى الآن من تمدد الاخطبوط الصهيوني اقتصاديا او مخابراتيا او من خلال السطو على المتاحف كما حدث في العراق وما يقال الآن من تعرض نهر النيل وهو مصدر الحياة كلها لمصر للاخطار بعد تقسيم السودان له صلة مباشرة بالدور الصهيوني ومن حلموا ببلوغ نهر الليطاني كما يتضح من مراسلات بن غوريون وسعوا الى تحويل نهر الاردن قبل اربعة عقود لا يقتصر خطرهم على فلسطين وحدها وضمن مساحتها الجغرافية وقد يكون هذا كله من البديهيات القومية التي لم تكن تقبل المطارحات السجالية ذات عروبة اكثر تماسكا مما هي الآن لكن البديهيات لم تعد كذلك بعد ان تعولمت الادمغة والذاكرات ومشت الجرافات والدبابات على الخطوط الفاصلة بين ثقافات وهويات واشواق وطنية لمختلف شعوب العالم.
ولست نبوءة ان نقول بان المستقبل المنظور سوف يبرهن على بطلان الكثير من الاطروحات القائمة على الخصخصة القومية في بعديها الامني والسياسي اضافة الى البعد الاقتصادي لكن ما نخشاه هو ان يكون الاوان قد فات لاستدراك ما يمكن استدراكه خصوصا بعد ان اصبحت القضية الآن في طور الاقلمة والعولمة ، فالناشطون القادمون لفك الحصار عن غزة معظمهم من جنسيات اوروبية وامريكية وآسيوية والعرب بينهم مجرد كومبارس.. وحين يعلو الصوت التركي مهددا تل ابيب بان تركيا لن تصمت ازاء حرب اخرى ضد لبنان او حين تنافس ايران الخطاب العربي القوم في البحث عن دور في الصراع فان الاقلمة تصبح الطريق المعبّد الى عولمة.. تحذف العرب من المعادل . (الدستور)