المستريبون

لم يسعفني المنجد في اللغة العربية ولا لسان العرب، في الوقوف على ماهية الفرق بين معنى المرتاب وفحوى المستريب، ومن ثم التعرف على دلالتيهما السيكولوجية ومغزى كل منهما في نطاق العلاقات الاجتماعية. لذلك فقد أخذت على عاتقي مسؤولية التمييز بين هاتين المفردتين المستخدمتين في الحياة اليومية من دون إدراك كاف، من حيث الدرجة على الأقل، لمضمون تعبيرين مختلفين، وحالتين شعوريتين متباينتين، وتطبيقين مستقلين، لا في اللغة فقط، وإنما في المواقف والأحكام والمعاملات، وهو بيت القصيد.
وأحسب أن الإنسان المرتاب بأمر ما، خبراً كان أم موقفاً أو نتيجة معينة، إنسان سوي بالفطرة، يصدق ما تراه عيناه لا ما تسمعه أذناه، يرتاد دروب الشك وإعمال العقل، يقلّب الموقف من جميع وجوهه ويمطر نفسه بالأسئلة، إلى أن يقف بذاته على باب اليقين ويتخذ بعد ذلك، موقفاً محدداً حيال ما هو بصدده من أحكام وقرارات وافتراضات سيجري اختبارها على أرض الواقع فيما بعد.
أما الإنسان المستريب بنفسه حيناً، وبما حوله في أحيان أكثر، فهو شخص عليل النفس والعقل، مضطرب الرؤية، قلق وفي حيرة دائمة من أمره، لا يقر له قرار ولا يحسم لديه خيار، متطير وجزع إزاء المستجدات، قليل الثقة بنفسه، عديم الاطمئنان إلى غيره، يحسب لكل خطوة قبل أن يخطوها ألف حساب وحساب، يجفل من المفاجآت، ويفت في عضده عند أصغر الملمات وترتعد فرائضه لدى مواجهة الصعاب، سريع العطب وينفد صبره في الحال.
وبإمعان النظر قليلاً في النموذجين الإنسانيين سالفي الذكر، نجد أن المرتابين هم قوة التغيير الاجتماعي، منهم المجددون والإصلاحيون التقدميون، والثوريون الديمقراطيون، والقادة الاجتماعيون النابهون، وكل الذين لم يقبلوا الاستسلام للواقع كما هو، ولم يرتضوا بالنمط السائد كإرث متوارث لا فكاك منه. فهم بارتيابهم الصحي وأسئلتهم المعرفية وتساؤلاتهم الإشكالية، يخلخلون أعمدة البنى الاجتماعية الكلاسيكية ويعيدون بنائها من جديد.
فيما المستريبون على العكس من ذلك، حيث هم عماد البنية المحافظة، من رجعيين وأصوليين وماضويون وقوى شد عكسي كابحة للتطوير والإبداع والتقدم نحو الأمام، وهم بأنانيتهم المفرطة وتحسباتهم المبالغ بها إزاء المستقبل، وتمسكهم الشديد بالأمس، يستسلمون لنظرية المؤامرة، ويستغرقون أنفسهم بإدعاءات النقاء والطهارة، الأمر الذي استحقوا معه لقب الحرس القديم وصفة الخيول الهرمة ووصمة الجمود والتحجر والانغلاق.
وعليه، فكلما ازداد وزن المرتابين، الذين يمكن أن نخلع عليهم أوصافاً أكثر إيجابية، واتسع نطاق فعاليتهم الاجتماعية، تعززت رافعة التحديث والعصرنة واكتسبت المزيد من الزخم الذاتي القادر على إصلاح منظومة القوانين ومحاربة الفساد وتوسيع نطاق الشراكة في السلطة والثروة والمكتسبات والمسؤولية، ناهيك عن فتح مجالات أعرض للتنمية الاجتماعية والإبداع الثقافي والمساواة والاعتدال والمساءلة السياسية والتقدم المعرفي والاقتصادي.
وهكذا، فإذا تعاظم تيار المستريبين وتمكن دعاته من الإمساك بمفاصل المجتمع والتحكم بآلياته الداخلية، وهم على ما هم عليه من تجبر وتشدد ومغالاة وتطيّر، فإن على التطور أن ينتظر إلى حين، وعلى الانفتاح أن يتراجع، وكذا على الحريات وتكافؤ الفرص والنجاحات أن تنكفئ، طالما أن هؤلاء المستريبين المتشككين بيومهم قبل أن يكونوا متوجسين إزاء غدهم، يتمترسون في الماضي ويخشون كل جديد، قائلين لك إن ما تعرفه خير لك مما لا تعرفه. (الغد)