عن الاستفتاء وجلد النساء ومستقبل السودان

ما شهدناه على شاشات التلفزة والمواقع الالكترونية من عمليات جلد للنساء في السودان ، أمرّ مثيرّ للقشعريرة ، وينطوي على امتهان لإنسانية المرأة والإنسان عموماً ، وأحسب أن مشاهد من هذا النوع ، كفيلة بدفع مئات ألوف الجنوبيين ، وبالأخص الجنوبيات ، للتصويت بنعم للانفصال ، فمن يريد أن يبقى تحت حكم الكرباج والجلد في الشوارع ، على مرأى ومسمع من الناس جميعاً ، هذه ليست شريعة ، وهي ليست من الإسلام في شيء.
وليسمح لنا أصدقاؤنا الكثر في الخرطوم ، فالصمت لم يعد ممكنا بعد أن بثت الفضائيات أشرطة مذّلة لـ"حفلات تعذيب النساء" بتهم تافهة من نوع "ارتداء بنطال"... وأضم صوتي لصوت مئات ألوف ، إن لم أقل ملايين السودانيين والسودانيات المطالبين بوقف العمل بهذه القوانين الجائرة والمتخلفة ، ومراعاة حقوق الإنسان ، وأصدقكم القول ، أن صوت النساء وهن يصرخن بأعلى أصواتهن بفعل لسع السياط والكرابيج ، وتناوب رجال الشرطة على الضرب والجلد ، أمر لم أحتمل مشاهدته ، وأجزم بأن العالم بأسره سيشعر بالاشمئزاز إن رأى مشاهد "طالبانية" من هذا النوع.
إن كانت هذه هي أحكام الشريعة ، فنحن لا نريدها ، هكذا ببساطة ، وليكن ما يكون.. لكنني على ثقة بأن الدول التي لا تمارس طقوس الضرب والجلد في العراء ، وعلى مرأى ومسمع من العامة ، بمن في ذلك ذوو الضحية وأطفالها وأقاربها وجيرانها وزملاؤها وزميلاتها في العمل ، ليست دولا مارقة ، والمسلمون الذين يستنكرون طقوس "الحرملك والاستعباد والعبودية" هذه ، ليسوا خارجين عن الملة... إنني على ثقة بأن إسلامهم ليس أفضل من إسلامنا ، بل وأجزم وأنا غير المخوّل والمؤهل للإفتاء ، بأن إسلامنا أكثر التزاماً من إسلامهم ، ببساطة لأنه أكثر مدنية وتحضراً ورأفة وتسامحاً.
مشهد كالذي شهدناه أمس على إحدى الفضائيات ، كفيل وحده ، وفي غضون دقيقة أو دقيقتين فقط ، أن يبدد جهود سنوات وعقود من العمل لترويج خيار الوحدة والحفاظ على تماسك البلاد والعباد.... ثم يأتيك بعد ذلك من يحمل على أهل الجنوب ، وميلهم الجارف لاختيار الانفصال على الوحدة ، بل ويأتيك من يقول لك ، بأن التطبيقات المتسامحة للشريعة ، راعت التعدد والتنوع الثقافي في بلد الثقافات والاثنيات المتنوعة ، إنه أمر مؤسف حقاً ، ونناشد المسؤولين السودانيين ، التدخل من دون إبطاء لوقف العمل بهذه الطقوس العائدة لما قبل الحضارة والتاريخ ، فالكرباج ليس وسيلة تربوية ، والإسلام لا ينتشر بالسياط ، والكلمة والموعظة الحسنة ، لن يبقى لها مفعول ، أمام هول ما شاهدنا ونشاهد.
نناشد المشرعين السودانيين التنادي على عجل لتعديل هذه القوانين ، والاستجابة لصوت الحركة النسائية السودانية المطالب بذلك ، بدل الزج بعشرات المحتشدين ضد ظاهرة جلد النساء في السجون والزنازين ، نناشد السلطات الكف عن هذه المهازل والتفرغ لجبه ما يعترض السودان من تحديات جسام ، ليس مستقبل الجنوب سوى واحد منها ، فإن استمر الحال على هذا المنوال ، راح السودان وضاعت وحدة أهله وترابه.
نعجب لأمر بعض الحركات والنظم الدينية ، كيف تفقد البوصلة بسهولة ، وكيف تجلب على نفسها غضب العالم دون مبرر ، وكيف تختار أسوأ التوقيتات للإتيان بممارسات كفيلة بتبديد عطف العالم وتضامنه ، بل وانتقاله إلى جبهة الأعداء والخصوم... من معركة الحجاب والجلباب في غزة المحاصرة والمجوّعة ، ... إلى معركة وحدة السودان وانقسامه ، التي يحتدم أوارها على وقع الاستفتاء الذي يقترب ، فيما الكرابيج تنهال على نساء بتهمة ارتداء "البنطال" أو خدش "الحياء العام".
ليذهب إلى الجحيم هذا "الحياء العام" إن كان "بنطال إمرأة" سيخدشه ، وليعلم مروّجو هذه الثقافة البدائية ، أن ما يخدش الحياء والذوق والأخلاق والقيم ، العامة والخاصة ، هو منظر الجنود وهم ينهالون بالكرابيج على إمرأة مستضعفة ، ملقاة في الساحات العام ، تصرخ وتئن ، من دون مغيث... هذا هو الاستخفاف بالحياء العام ، ومن يقومون بهذه الممارسات هم الأولى بالجلد والسجن. (الدستور)