عطارو الثقافة والثّعالب!

منذ نصف قرن ونحن نتساءل: هل يمكن للثقافة ان تصلح ما أفسدته السياسة في عالمنا العربي؟
وقبل التسرع بأية اجابة.. كم هم الذين تبقوا على قيد ضمائرهم من المثقفين ، هؤلاء العطارون الذين يتولون تطهير الفضاء من روائح الضباع والثعالب؟
ان أضعف الايمان في زمن التخلي والخذلان هو الحفاظ على ارث هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم من اجل من سيرثهم من العرب ، سواء كانوا ثوارا أو كتابا أو مصلحين ، والنموذج الذي قدمه أصدقاء الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين لتخليد ذكراه والاحتفاء بمنجزه الثقافي يستحق التقدير والاقتفاء أيضا ، فهؤلاء عرب من كل مكان ، بالاضافة إلى ذويه من المصريين ومن لم يختطفه التاريخ بعد من أبناء جيله.
فما الذي يدفع الفلسطيني رجل الاعمال عبدالمحسن القطان الى المساهمة في انجاز مركز ثقافي يحمل اسم بهاء الدين في قريته بصعيد مصر؟ وما الذي يدفع الأردني كمال الشاعر الى ان يكون من رواد المحافظين على ارث بهاء الدين ، ومثلهم كويتيون وسوريون ولبنانيون ومن مختلف أنحاء هذا الوطن الذي كان كبيرا ذات عروبة ، ويراد له الآن أن يتحول إلى حارات وأزقة تعزف نشيد الانفصال وترفع راية الانخلاع.
أهمية بهاء الدين ليست في كونه كاتبا فقط ، فما أكثر الكتاب خصوصا من أبناء جيله الذين ولدوا في الربع الاول من القرن العشرين أو بعده بقليل ، أهمية بهاء في استقلالية رأيه ، وهو الذي كان أشجع من سواه عندما كتب في زمن السادات مقالة شهيرة بعنوان سداح .. مداح.. وهي تعبير شعبي عن الانفتاح الذي بشر به السادات وتحصد مصر الآن محاصيله،
بهاء الدين قدم في حياته تعريفا آخر للصحفي غير مجرد المتابعة والسجال السياسي وأحيانا الارتهان لهذا الطرف أو ذاك ، فقد كان متابعا دقيقا لما يكتب في اسرائيل ، واعترف أنني تعلمت من كتابه اسرائيليات الكثير وهو الذي دلني على يائيل دايان وروايتها الفاضحة للتربويات اليهودية بعنوان طوبى للخائفين ، ولم ألتق الرجل إلا مرة واحدة وبالصدفة في أحد شوارع عمان في بداية السبعينات من القرن الماضي ، كان يمشي وحده بالقرب من مقهى السنترال وأنا عائد للتو من القاهرة ، عرفته من قامته الممتلئة القصيرة وبريق عينيه الذي لم تحجبه نظارة طبية سميكة.
وحين سألته: هل أنت الاستاذ بهاء ، قال نعم ومد يده لمصافحتي رغم انه لا يعرفني ، وقلت له بأنني طالب في جامعة القاهرة وأتابع مقالاته وأتعلم منها في مجلة صباح الخير وكذلك عموده القصير المكثف في الأهرام ، ومشيت معه بضع خطوات ثم فاجأني بالقول انه يريد تناول الغداء في مطعم أعجبته واجهته وروائح الشواء التي تنبعث منه والمطعم لا يزال موجودا حتى أيامنا.
كانت تلك الساعة أو الساعتان هي كل علاقتي بالرجل ، لكن علاقتي بأكثر من ثلاثين كتابا ألفها في التاريخ والأدب والسياسة لم تنقطع حتى اليوم ، وحين سمعنا أنه مكث ستة أعوام في غيبوبة كاملة شعرنا بالأسى ، لكننا حسدناه للحظة.. فالغيبوبة خصوصا في الوقت الذي أصابت فيه بهاء الدين تصبح مطلبا عزيزا كي لا يرى المرء ما رأينا عام 1990 .. وحتى اليوم،
ان المثقف العربي سواء كان مصريا أو أردنيا أو من أي قطر آخر هو ملك للأمة كلها ما دام يكتب بلغة هي لغتنا جميعا وتحت مصابيح ذاكرة هي ذاكرة تاريخنا جميعا ، فهل تبادر جهات أخرى الى تكرار هذا النموذج؟ لعل الثقافة تصلح ولو قليلا مما أفسده الساسة والسوس،، (الدستور)