الموت السياسي الرحيم

من المحتمل ان حال رئيس الوزراء وفريقه سيكون افضل وربما اكثر سعادة لو تم انتزاع ثقة غالية بنصف عدد المجلس او اكثر قليلا من الثقة الذهبية التي لم تعد تعني الكثير في تقاليد السياسة الاردنية، وفي العلاقة بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية التي وصمت بالتبعية والاحتواء خلال السنوات الاخيرة، فانتزاع الثقة بأغلبية بسيطة تعني أن الحكومة جديرة بالولاية الدستورية من مجلس حريص ومتنبه وجدير بثقة الشعب.
في الوقت الذي كان السادة النواب يستنسخون بعضهم بعضا، ويذهبون بعيدا في تأكيد غياب الكثير منهم عن الدرس الاول في فلسفة الديمقراطية وفي تنمية الحياة السياسية، كان طلبة الجامعة الاردنية يمارسون خياراتهم الوطنية بثقة وحرية وربما استقلالية تجاوزت حالة النواب، حينما أفرزوا تنوعا وتعددا في المواقف لم يقو عليه الساكنون الجدد في بيت الديمقراطية العتيد.
واذا كانت حكومة السيد سمير الرفاعي تستحق التهنئة بهذه الثقة التي وصفت بغير المسبوقة ووصلت الى نحو 94 % من أعضاء المجلس، فإنه كان يمكن أن تكون تهنئة تاريخية لو كسرت هذه الثقة علاقة الاحتواء والتبعية بين السلطتين والتي تجسدها مرة أخرى ثقة ثقيلة من هذا النوع. نحن نعلم أن من بين الفريق الوزاري ومن بين السادة النواب من يدرك أن هذا النوع من الثقة عبء وثقل على الحكومة أكثر من كونها حافزا للراحة والاسترخاء وبيئة ملائمة للعمل إلى جانب مؤسسة برلمانية مهادنة، فالحكومات لا تعمل وحدها وتحتاج الى جانب ثقة المؤسسة البرلمانية ثقة القوى المؤثرة في المجتمع وتحتاج أيضا ثقة المجتمع الدولي وكل ذلك وغيره ينبع من مدى تمثل المؤسسة البرلمانية للكفاءة والتمثيل الحقيقي.
من المفارقات الشعبية التي تحمل معاني سياسية واجتماعية كبيرة التعليق الذي أطلقه أحد النواب ليلة الثقة (الموت مع الجماعة رحمة) والذي أصبح عنوان ليلة الثقة بين الناس، في إشارة إلى أنه لا بد من الذي لا بد منه، فعلى الرغم من أن الحكومة كانت ذاهبة لنيل الثقة وهي مطمئنة تماما، ومن المفترض أنها لم تسق النواب الى هذه النتيجة، لكن سلوك المجلس في منح الثقة أثبت وجود طبقات سياسية واجتماعية متراكمة من التبعية وكأننا أمام إعلان موت سياسي رحيم لهذه المرحلة.
إن احترام التعددية والتنوع وتمثلهما اجتماعيا وسياسيا هو الجذر الحقيقي والقاعدة الأساسية لبناء سياسي ديمقراطي جاد، وهو عنصر قوة مضاف لقوة الدولة، والمفارقة الأخرى تبدو حينما نجد أن المجتمع الأردني الذي أنضج تعددية اجتماعية منسجمة وفاعلة وتعد أحد عناصر القوة الاساسية، هو المجتمع ذاته الذي ما يزال يحسب ألف حساب للتعددية السياسية. ثمة مفهوم شعبي شائع لمنح الثقة وحجبها منذ عودة الحياة النيابية يرتبط بوعي الناس بما سوف يحصل عليه النائب من خدمات وامتيازات لقاعدته الشعبية، وهذا المفهوم رسخ بفعل سلوك الحكومات ونهجها في الاسترضاء وتطييب الخواطر، حتى فقدت الحياة البرلمانية معناها وقيمتها السياسية.
بعد كل هذه الطمأنينة التي أوجدتها الثقة التقليدية، وحتى ينجو مجلس النواب من الموت السياسي الرحيم، فإن المجلس بأمس الحاجة إلى مدونة سلوك وطني وليس أخلاقيا وحسب في علاقة أعضائه مع الحكومة. فهنا مربط كل الخيول من البحث عن هيبة المجلس ودوره وقيمته السياسية والوطنية أيضا. (الغد)