قطاريز ومطاريز !

القطاريز كلمة لها صدى في ذاكرة القرويين من ابناء جيلنا والاجيال التي سبقتنا ، وهو يشبه الى حد بعيد الاقنان كما وصفهم السياب في ديوانه منزل الاقنان او الموجيك الروسي قبل ثورة اكتوبر ، فالقطروز يتقاضى اجرا محددا عن عمله طيلة عام كامل وهو سائس خيل وحصاد وعامل ، اما المطاريز فهم كما روى لي صديق من الخليج العربي اشبه بتلك الفئة من صقور الصيد الرخيصة التي تطلق وراء الفريسة كي تدوخها ثم يأتي دور الصقر الثمين وذي الخاتم الذهبي..
في خمسينيات القرن الماضي كنت من اوائل المنسلخين عن نمط التفكير الاجتماعي الذي يشمل الطبقة التي انتسب اليها ، وهي طبقة ملاكي الارض وكنا ننحاز رغم اننا لم نكن نتجاوز العاشرة للقطاريز ونتمنى ان يأتي يوم ينتفضون فيه على اهلنا ثم جاءت الرياح الايديولوجية محملة بافكار من هذا الطراز ورحبنا بها ، ولم يكن يخطر ببالنا ان القطروز او المطريز سوف يقلب ظهر المجن لذاكرته ولمن شجعوه على العصيان ليصبح اسوأ باضعاف من الذين كانوا يسيطرون على حياته ويمتلكونه كما يملكون الخيل والماعز.
واول ما فكر به القطروز عندما امسك بالمفاتيح هو تقليد سادته القدامى ومحاكاة سلوكهم ، وبدلا من تحقيق وعوده بتحرير الارض والناس رهن نفسه لمن يمهد له الطريق للبقاء في السلطة ، سواء كانت صغيرة في نطاق مجلس قروي او كبيرة في نطاق رئاسة جمهورية او شبه دولة،
لقد اصبح القطروز ثريا يبدد المال بسفاهة ولا مانع لديه ان يقتل كل خصومه اذا تطلب الامر ، ولكي يبرهن القطروز لنفسه وللناس على ان الزمان تغير لصالحه.. دفع اموالا طائلة ثمنا لبيت قديم يشبه الاطلال ، لمجرد ان مالك هذا البيت كان ذا جاه ونفوذ في زمن ما،
وما فعله القطروز كرره المطريز لكن بشكل مغاير ، فهو فعلا يؤدي وظيفة مدفوعة الاجر من اجل تدويخ الفريسة ولكن ليس على غرار الصقور الرخيصة ، بل من خلال الاستعداء والوشاية وبث الشائعات وبمرور الوقت نسي المطريز وظيفته.. وبدأ يحلم بالتحليق عاليا وبعيدا. ليأخذ دور الصقر ، تماما كما حلم الكومبارس في السينما ذات يوم بدور البطولة ، لكن امام زوجته وابنائه والمرايا وليس في الاستوديو وثمة مقهى في القاهرة اسمه مقهى بعرة - وكان رشدي اباظة من اطلق هذا الاسم عليه - يعج بالكومبارس والدوبليدات او البدائل وهناك من يتقاضى اجرا زهيدا مقابل ان يسقط عن سلم او درج بدلا من البطل لان مؤخرة رأسه واذنيه تشبه مؤخرة رأس واذني البطل.. وهذا هو كل رأس ماله...،
ولسنا نحن العرب اول او اخر من جرّب هذه الكوميديا السوداء ، وهناك مسرحية شهيرة لالبير كامو عمن يختطفون السلطة باسم العدالة والناس ثم يتحولون الى نماذج اسوأ واقسى من تلك التي انقلبوا عليها،
إن سبعين عاما على الأقل من تاريخنا العربي الحديث تحتاج إلى إعادة نظر ، وإعادة تقييم للبشر والتجارب التي أدخلتنا إلى هذه الحفلة التنكرية ...
ان ما يجب قوله بلا اية مواربة هو ان بيوت او حتى قصور من انقلب عليهم القطاريز والمطاريز اكثر تواضعا بكثير من بيوت الحواشي والتابعين لهؤلاء الذين جعلوا الناس في ايامنا يكفرون بكل الشعارات التي هتفوا لها،
كيف نصدق اننا دفعنا كل هذا الدم وكل هذا الخوف وكل هذا العذاب لكي يركب القطاريز والمطاريز على اكتافنا ويدلدلوا ارجلهم؟ (الدستور)